أخبار قناة العربية

Chat With Your Friends Freely And Openly .. No Limit For Time

الأحد، 13 يونيو 2010

حنون مجيد .. قصة : فـن

فن : قصة قصيرة
صحيح إن طعام الغداء أتخم الرجل، إلا أن استدعاء طفلته الوحيدة كان لأمر آخر انطلى باطنه عليها فهبّت لنجدته، هي التي تمنعت عليه ساعات.
تمدد الرجل على بساط مفروش على أرضية الغرفة، تحت شمس خريفية نفذت من خلال شباك واسع،وصاح بصوت مسرحي اكتّظَّ بالتأوهات!
-ندى.. آه.. ندى.
تركت ندى قطتها التي ابتنت لها عشاً حفرته على جدار غرفتها، وأطلّ من خلف الباب وجه مدور صغير، تراقصت فيه عينان سوداوان ماكرتان.
حسب الرجل أن مهمته ستكون شاقة إن لم يتصنع الجد ويستغيث من جديد:
-ندى.. معدتي يا ندى.. الألم يخترق معدتي.
في غمرة تردد مضطرب، تراءى لندى أن قطتها إن سقطت من جدارها فلسوف تتحطم عيناها الزجاجيتان، إن لم يدق عنقها وتموت، فردّت على استغاثته بصوت حازم جاف، ونظرها يستلقي على بطنه الذي ارتفع قليلاً لمقدار ما تناول من طعام:
-وماذا تريد؟
أغمض عينيه وبسط جسده، وكرر استغاثته معبراً عن ألم صادق ومصطنع معاً:
-تعالي.. ضعي يدك على ألمي، وادعي لي بالشفاء.
وخيل إليها عبر عقل صغير ورؤية ضيقة، أنها تسمع الصدق كلّ الصدق، فانصاعت لأمره وهو الذي صدع نفسها حين قرّعها بكلام جاف، بل إنها وجدت خطواتها تتسابق إليه.
دنت منه حتى صارت قربه.. قالت بغنج ودلال:
-أين؟
لعبت على شفتيه ابتسامة رقيقة، لكنها كانت تخفي من الموج أكثر مما يخفي سطح البحر، وأومأ لها، هنا، ووضع يده على منتصف بطنه نحو الأعلى حيث يكمن الثقل حقيقة.
وضعت ندى التي لم تتجاوز الثامنة، يداً رقيقة على المنطقة حيث أومأ، فسرت في جسده المشبع بالضيق موجة برد ناعم لذيذ سرعان ما انتقلت إلى نفسه فأشاعت فيها هدوءاً كان، لفرط رخائه، يتمنى لو يلثم اليد التي حطت عليه.
بدأت الصغيرة تقرأ سوراً قصاراً مما حفظت ولم تحفظ في مدرستها، وتهمهم بأدعية بصوت خافت كالهمس يشفّ عن انفعال صادق، وكانت تقترب من نفسه اقتراباً ساحراً مضى يتعمق كلما تقدمت اللحظات.
ومرة بعد أخرى كانت تعيد همساً طرياً ناعماً من دون أن يتخلل صوتها ما يشير إلى ضيق أو نفاد صبر، حتى إذا شعرت بكفاية ما قامت به توقفت.
وأحسّ بأنها لم تكن قريبة منه القرب المنشود، فلا زالت يدها على النقطة ذاتها، ولايزال جسدها متباعداً عنه ملتماً على بعضه كما لو أنها تهاب أن تمسّ به جسده، وكان يطمح أن يسكن قلبها فوق قلبه، يسمع نبضه ويحسّ دفق دمائه، لذلك قال بصوت جهد أن يكون واهناً مجروحاً:
-أعيدي ما كنت تقرئين، فلا يزال الألم يؤذيني.
وخيِّل إليها أن قطتها قد سقطت على الأرض وتحولت إلى شظايا زجاج دامية، وأن دماً حاراً قد يكون أخذ مجراه نحو دمى تركتها وسط غرفتها ليغير ألوانها الطيفية نحو لون واحد شدّ ما كان يذكرها بدم نزف من يدها حينما جرحت إثر لهو غافل مع قطتها ودماها.
ضغطت على النقطة حيث كانت يدها تستقر، فأرسل يده ووضعها برفق وئيد فوقها، وفي سرية تامة، وشيئاً فشيئاً زحف بها.
وكررت همسها.. وبالاستغفال ذاته واصل السحب للأعلى فصارت اليدان فوق عنق المعدة تحت مثلث الصدر، ثم وهي تتابع همسها مالت اليدان جهة القلب واستقرتا عليه، ثم ضغطت يده في قوة محسوسة، هذه المرة، على يدها لتلامس موقع القلب حتى لكأنها تحاول أن تنفذ إليه.
مال جسد الصغيرة نحو جسد أبيها.. لقد غشيها السحر هي الأخرى، ولم تعد تتبين في دوامته آثار عاصفته على قلبها الصغير، واستكانت لحرارة جسده حين استقر صدرها على صدره.
كادت تأخذها غفوة على صدر واسع مستكين، بل أخذتها إغفاءة حالمة قصيرة حلقت بها نحو أب جميل وطفلة بثوب أبيض هفهاف تحاول أن تثير فيه ضحكاً مستديماً بدغدغات متواترة، فيستجيب لها بنزق طفولي مثير ويتمايل ذات الشمال وذات اليمين، أو يكور جسده الضخم ليزحم به حضنها الصغير، فلا تستحوذ إلا على رأسه تعبث بشعره وأذنيه، ثم يفلت منها في حركة طارئة غير محسوبة ويرتمي بعيداً مثل رجل غريب يقبع في العراء يلّم أشلاء قطة وشظايا زجاج، فيلمّ بها حزن يقطع عليها رحلتها لتستيقظ مجفلة ولتفاجأ بأبيها مطرّداً في هدوئه، ساكناً سكون الأموات.
ووقفت على جسده في إطلالة حيرى مسكونة بفزع غير فزع ضياع حقيبة المدرسة أو مجموعة أقلام ملونة.
وأرهفت السمع لدقات قلبه.. وضعت أذناً مرهفة على صدره فتنبهت في حالة كشف سعيد إلى إغفاءته الصامتة ونفسه الهادئ الرتيب فأدركت أن أباها يغط في نوم مريح.
وتنفست الصعداء، وشعرت بحبور، وكما تغادر قطتها الزجاجية فراشها الوثير، سحبت على أطراف أصابع مترفة، جسداً مفعماً بخفة لا حدود لها، وغادرت الغرفة بهدوء.

ليست هناك تعليقات: