الساحر : قصة قصيرة
قبل أن ينتبه إليه أحد ليعرف كيف يقيم الساحر خيمته، أقام الساحر خيمته. وإذ تنازعه إعجاب دفين بالألوان التي تراقصت واحتدمت على ظاهرها، فلقد تطامنت نفسه على ظلام باطنها الذي زاد من عتمته انحراف بابها.
وكأي ساحر ينشئ خيمته، همس لنفسه مخاطباً فيها جمهوره المجهول، هي ذي الخيمة لقد قامت الآن، واقتعد كرسياً قديماً، منتظراً قدوم القادمين، مبدياً في الوقت ذاته نوعاً من زهو مشاكس بيدين لا يملك غير سحرهما وبعض قطع من قماش ملون رخيص ومرايا مشوشة وعدد من صناديق خشب وحبال وسيوف.
من مسابقات بعيدة وقريبة شاهدها الناس، خيمة شامخة تقتلع بألوانها الزاهية عين التمثال.
وعجبوا من سرعة قيامها، كما دهشوا من غفلتهم عنها، هم جيران الرحبة التي انتصبت عليها.
وتقاطروا نحوها.. جذبتهم غرابة ألوانها والرسوم المثيرة المتداخلة التي انتشرت على جدرانها، وأغرتهم، من ثمّ، في الداخل عتمة مضللّة كانوا عليها يتساءلون عما يدور في أحشائها، وما عساه أن يتكشف لهم بعد أن يشق عليهم ظلمتها.
على توافد هؤلاء وأولاء من كل جنس ولون، لبث الرجل متربعاً على كرسيه بصمت الجماد، لا يشير إليه حياً غير نظرات باردة مرتابة تنوس بهدوء وتراقب الناس ولا تعجب من انهمارهم المستمر وتهافتهم على الاصطفاف حول حبل طويل التفّ على أعمدة أحاطت بأرض سويت جيداً لتكون مسرحاً لأفعاله المقبلة.
على أنه بمضيّ الوقت واشتداد تلاحم الوافدين، أقنع الرجل نفسه بكفاية جمهوره، فنهض حاملاً كرسيه ودلف به إلى الخيمة.
هناك أمضى وقتاً طويلاً قطّع فيه أنفاس الناس، فظنوا أنه اختفى لأمر، وقد لا يعود سريعاً، أو أنه لربما سيخرج إليهم بملك من الملوك يقطع أمامهم رأسه ثم ينتظر حكمهم في موته أو إعادة الحياة إليه، أو أنه يشاور نفسه في ما سوف يأخذ به عقولهم من ألعاب وأفاعيل، ثم إنه في أبسط أحواله وحال أي ساحر مثله قد يبحث في تلافيف أشيائه عن قماشة تتحول في سرعة فائقة إلى طائر أبيض يمنح السعد لمن يحطّ على رأسه فينقله من حال إلى حال.
أخيراً أسفرت فرجة الباب عن قامة مشدودة سحبت على هيئتها الغريبة شيئاً من ظلال الخيمة، فامتد صمت عميق كان الناس خلاله يتوسلون معرفة الشيء الذي انضمت أصابعه عليه، فإذا تبينوا أنه خرقة من قماش التمسوا أن تتحول إلى طائر السعد ذاك.
في البدء مضى الرجل يستعرض بنظر واثق رصين عيون الآخرين، فلما توقف فيها على ما ظنّه البراءة القديمة، نشر قماشة ملونة لا يعدو حجمها حجم أي منديل وجعل يعرضها على الأنظار.
في لحظة خاطفة وكان لا يزال مسمراً نظره في العيون المترقبة اللاهفة، طوى بأصابع رشيقة مرهفة القماشة المنشورة، وفي لحظة تالية غابت القماشة، إذ كشف عن أصابع مجردة مفرودة استقرت على كف مسطحة معروقة، فتداعت الدموع وفاض معها سيل من أسئلة متداخلة خرساء، ثم إذ لم تمض لحظة ثالثة طوى كفه بالرشاقة ذاتها حتى صارت خلف ظهره وعاد بها مضمومة على طائر أبيض ناصع اللون هفت له القلوب.
وكما توقع فلقد تعلقت الأنظار، في طائر جميل أطلقه للريح وحلق في الفضاء، بيد أن الطائر هذا كما لو كان محتبس النفس كظيم الفؤاد، فقد لبث محلقاً في الأعالي يدور في حلقات مفرغة لا تنزع نفسه نحو أحد وإن كانت نظراته الدقيقة الزائغة قد انصبت على رؤوس كثيرة وألهبت النفوس.
من بين أماني الساحر في أن يعود طائره يرسو على يده، والجمهور في أن يستقر على رأسه، وقد طال انتظارهما، والطائر لم يزل يحوم ويحوم حول الرؤوس، مني الإثنان معاً بأول خيبة حينما أطلق الطائر جناحيه في نهاية المطاف نحو أفق بعيد وتوارى هناك.
لم يطل انتظار الساحر المهزوم، بعد أن تبين أن طائره الأليف قد خانه ولن يعود، كما لم يحدث مرة من قبل، فقد تقدم في خطوات جهدت أن تكون واثقة نحو الخيمة، وعاد بمنضدة كبيرة استقر عليها صندوق وسيف.
وخيل للجميع أن الساحر قد أسقط في يده بعد أن شفّت نظرته عن اضطراب وزيغ، غير أنه سرعان ما بدد الوهم حين رفع يديه عالياً فوق صندوق خشب مفتوح النهايتين لا يعدو أن يكون غير أربعة أضلاع موصولة فيما بينها بمسامير وقال:
-أما الطائر فسيعود.. وأما الآن فانظروا إلى هذا الصندوق.
لم يكن الصندوق بحاجة إلى أن يعرض طويلاً، أو هذا ما حصل فعلاً، بعد أن أعاده إلى منضدته وامتشق سيفه، وتقدم به من الجمهور وسحب صبياً قاتلته أمه عليه لتمنعه عنه، حتى تبرع صبي آخر مقتحماً غابة المتفرجين.
كان الصبي هذا غريباً طارئاً امتصت جرأته السافرة السؤال عمن يكون ومن عرفه أو شاهده من قبل، وكانت العيون المعلقة تتابع خطواته الثابتة المتسقة وهي تمضي به ليرتقي المنضدة ويحشر جسده الهزيل، تحت إيحاء الساحر، في فراغ الصندوق.
هناك.. أوغل الساحر يديه ومضى يضفي لمسات مبهمة على الجسد الممدد الذي اختفى ولم يعد يظهر منه غير رأس مشعث الشعر في جانب، بينما نتأ منه في الجانب الآخر قدمان حافيتان.
رفع الساحر سيفه، وتمددت لحظات بين العرض والاستعراض تقدم خلالها من الصفوف الواجمة ليزحف من ثم مع انعطافتها المستمرة ويكمل معها دورة اقترب في نهايتها من صندوقه الراقد بسلام وأنعم النظر فيه، وهناك أمعن في رفع سيفه في الفضاء وهوى به عليه.
وعلى الرغم من أن سيفاً مثل سيفه لم يكن مؤهلاً-وحده يعرف ذلك- لأن يقسم صندوقاً إلى قسمين، فإن هذا ما حصل أو هذا ما شاهده الجميع.
فيما أوغل الصمت أعلى الرؤوس، كان هو يبدي فخره بقدرته وزهوه بفنه معبراً في الوقت ذاته وبتعبيرات تراءت متكلفة مرسومة، عن خطورة عمله وجسامة مهمته.
اقترب من الصندوق، وبحركات مسرحية أشاعت في بعض النفوس صدى أدوار الفتوة المفتعلة- فصل ما بين جزءيه ثم فرق بينهما ليباعد ما بين الرأس والقدمين، وإذا مضى وقت يسير عاد وأوصل بينهما وضرب بيد صلبة على الصندوق خرج على إثرها الصبي سالماً تام الجسد ومن دون أن يناله أذى.
كاد الرجل يطير على ما راح يتصادى تحت أذنيه من هتاف مختلط مثير، لم يفهم منه غير أنه حالة من حالات هياج الناس في موقف مثل هذا، وإنه في كل الأحوال تعبير عن إعجاب ممزوج برهبة وانبهار، وإن هذا جلّ ما يبتغيه ساحر من جمهور.
من طرف آخر، إذ باشر الصبي المتبرع عودته إلى الصفوف مختالاً أو يتظاهر بالاختيال، كانت المرأة تندم لقتالها الساحر، وصبيها يذوي لفوات فرصة البطولة عليه.
ومهما يكن من أمر، فقد قطع الساحر هرج الناس وما بدأ يتناثر على شفاههم من أسئلة لم تجد أجوبتها، حين أطل من ظلام الخيمة بعد أن غاب في جوفها لحظات وألقى حبلاً على الأرض.
كاد حصار الناس يتفكك، إذ ظنوا الحبل حيّة أو أنه سيمسي حيّة تسعى، لكنه- قبل أن يستبد بهم خوف مريع يشتت شملهم وقد ينشأ جراءه سؤال لم يتحدد بعد عما يكمن خلف ذلك من أهداف وغايات- دار حول حبله عدة دورات حتى غامت النظرات، عندئذ رأت العيون الوسنى يداً ماهرة تلتقط الحبل لتقيمه على طرف منه ويستقيم، من ثم، على الأرض مثل عمود.
ثانية أشرع الصبي الجريء ذاته فتقدم منه مشرعاً سيفه مشمّراً عن ساعديه وضمه إليه.
ومرة أخرى قاومت المرأة نظرة الساحر المتشفية والساخرة معاً، حينما عاودتها رجفة الخوف السابق ذاتها، فانطوت على صغيرها وأعلنت عن استعدادها للدفاع عنه وعدم تسليمه إياه لو شاء.
تحت عيون ما فتئت أيدي الساحر تفعل فعلها فيها، وتراودها كأطياف أجنحة في مغيب، ارتقى الصبي الحبل بخفة قرد صغير ومكث على ما بدا مستقراً له هناك، منتظراً مع الجميع إيعاز الساحر أو ما سوف يحلّ به على يديه.
من هناك.. من النقطة القريبة التي تراءت للجميع ذروة لا أعلى منها تساقط الصبي أشلاء على الأرض وعند مرتكز الحبل، شلواً إثر شلو.
ومثلما فعل بجزءي الصندوق جعل الساحر يرفع الأشلاء واحداً بعد آخر، ويعرضها على العيون الدامعة ثم يجمعها بعضاً إلى بعض ويمسح عليها بيد حنون، فاستقام الصبي من جديد وعادت إليه الحياة، فما لبث أن انضم إلى نقطة بين حشود الناس وغاب.
بينما كان هرج الناس يتعالى ويمسح منهم ما يمسح مما تداعى إلى عينيه من دموع، ليعرف إن كان في حقيقة أو خيال، كانت امرأة تنسل بصبيّها تاركة كل شيء للسحر وساحره، غانمة من كل ذلك ابناً وحيداً لا مندوحة من حمايته، ولا شفاعة لها في الرهان عليه، ما دام السيف سيفاً في كل الأحوال، وإنه وَإن بدا في يد ساحر ماهر، فإنه قد يخطئ وقد يصيب.
من دون الناس جميعاً خرج رجل من صفه وانحاز نحو حشد كان الصبي غمر نفسه فيه قريباً من امرأة كانت تتحلى بحلي كاذبة.. لم يجد الصبي هناك، إنما وجد الحشد الذي كان لا يزال مهتاجاً، يلّوح بنذر شر فأوجس خيفة، إذ لم يكن بمقدور رجل مثله أن يدرك في سرعة كالتي حل فيها ما يحيط بهؤلاء وما الذي سوف يسفر عنه هياج مثل هياجهم، فانسحب نحو نقطة أخرى لعله يعثر على الصبي فيها.
بعد سؤال دائب وتطواف حثيث، أيقن أن أحداً لا يعلم متى يظهر الصبي ومتى يغيب، ومن أين قَدِمَ وما علاقته بالساحر، ولماذا هو دون غيره من الصبية الآخرين على مثل هذه الدرجة من الشجاعة والإقدام؟
من بين تداعيات كثيرة شعر الرجل هذا بالذنب، ومضى يسلط لومه على الآخرين الذين انغمروا في ما قدمه الساحر من فنون ونسوا أو تناسوا أن يتبينوا الصبي المتفرد أو يتعرفوا عليه.
لم يدرك الرجل تعب ما وقد طاف كثيراً، حين وقف عند نقطة معينة تراءى لـه عندها أن الصبي ربما كان مرتهناً لأمر الساحر، يظهر بإرادته ويغيب بها، إنما لأنه أصبح قبالة الخيمة التي انطوت على ما لاح لـه على الكثير من الخدع والأحاييل.
جعل يرمي بصره نحو الخيمة التي لا تمنح الناظر إليها أي معرفة بما يتشكل في داخلها، ثم يسرحه على الوجوه المحتقنة التي أجهدها صبر الساعات الطوال والشمس التي ما برحت تفجر العروق وتلهب الأجساد.
وكمن ينوء بسر غير محتمل ضاق به صدره وانطوت عليه جوانحه، راح يطوي مدار الساحة دون هدى، حتى لفتت نظره امرأة طويلة القامة منطوية الجسد، جاءت تهرول من أقصى المدينة عرف من بعد أنها أم الصبي الذي نازعت الساحر عليه.
قالت بعد أن تركت بينهما مسافة لعبت فيها ريح حملت معها قليلاً من غبار:
-أما يزال هذا يرعب الناس ويلقي بالروع على الأفئدة والقلوب؟
ردّ وقد تبينها شاحبة الوجه ناشفة الشفتين، تطوي جسداً فارعاً على ما يلوح أنه رهبة أو رعب:
-نعم.. إنه كذلك.
-إذن حسناً فعلت حينما جنبت ولدي شّره، وها إنني أعود لأنظر كيف ستكون خاتمة أفعاله.
قالت ذلك وأومأت نحو الأفق في الوقت الذي أطل من خلف كتفها وجه مدور جميل، كان يظهر على صاحبته أن الساحر قد أثار كوامن ظنونها في ما هو صدق أو كذب من أعماله، فاختلطت نظرتها وتجلى عليها ذهول المُصّدق والمرتاب معاً حتى قالت بنغمة طافحة بأصداء متنافرة من الشك واليقين:
-أواه.. أكاد أغلب على الرغم من أن ما يجري أمامي سحر في كل الأحوال
بينما انزاحت من مكانها على صوت أحست أنه داهم غفلتها. أفسحت المرأة الأولى في المجال للرجل أن يسلط نظرة عريضة على هيئة المرأة الأخرى. ثم ليقول:
-كل هؤلاء يعرفون أنه سحر، ولكن بين ما يلوح إنه صدق أو كذب تضطرب العقول.
افترش الساحة التي تفصل بين الثلاثة سكون يرجّه كل لحظة هرج الناس، فأشار الرجل على المرأة المتشككة:
-عودي من حيث أتيت وارقبي ما يدور في الساحة، فالرجل يؤدي آخر ألعابه.
لحظت المرأة في عيني الرجل الثاقبتين عمقاً مخيفاً أحاط قلبها بظلال ثقيلة فبادرته بالقول:
-أأنت العرّاف؟
وانصاعت لأمره وأدبرت مسرعة نحو الصفوف الملتهبة وغمرت نفسها بينها.
حين وقع بصر الساحر على عيني المرأة المدورتين وقد نهد رأسها فوق الرؤوس، جمدت حركته وشلّت قدرته وكاد يستعصي عليه حل عقدة المنديل الذي بين يديه، لينهد في الفضاء، انهداد طائر محتبس، خاتم ذهبي اللون لم يعرف أحد أول وهلة لمن يعود ومتى حل في العقدة وكيف، قبل أن يستقر على كف امرأة فاجأتها تماماً عودة خاتمها إلى اصبعها الرشيق، ثم إذ تدارك نفسه، وقد تداركها قليلاً ترددت بين أذنيه أصداء نبوءة مريرة أطلقها في وجهه ذات يوم عرّاف قديم تقول:
((احذر الريح والضوء وعيون بعض الناس)).
أردفت المرأة الأولى ولم تكن غادرت موقعها بعد:
-حتى ذلك الأعمى يأخذ مكانه بين الناس.
وحقيقة الأمر، إن رجلاً أعمى طرقت أذنيه الضجة الصاخبة، فوقف متباعداً يتأمل الأصوات المتنافرة التي كانت تعلو حيناً بعد حين، ثم لم تمض لحظات إلا وكان يتراجع إلى الوراء، متجهاً نحو دكان قديم متواضع يختلف إلى صاحبه كلما ضاقت نفسه المتوترة بغرفته الوحيدة في فندق رث يقع على جانب من الساحة التي أقام الساحر خيمته عليها، وقد اكتنزت شفتاه الفحميتان بتوترات شتيمة فاجرة أو بصقة في الهواء.
-لذلك الأعمى رأس غير هذه الرؤوس. إني أعرفه.. تكاد جمجمته لا تحتمل عقله.
في الدكان جلس الأعمى إلى جانب صاحبه تماماً ينوء بعزلة فرضها عليه عماه وشدة مراسه. ولأن الدكان منعزل بعض العزلة عن الساحة وصاحبه عجوز شبه أصم، شبه أعمى، وقابع في دكانه لا يغادره إلا ساعة ذهابه إلى الجامع المجاور يصلي ويقضي بعض حاجاته، فقد غفل الرجل هذا عما يجري في الساحة، وتغافل عما بات يختلج على شفتي صاحبه الأعمى، إنما قال مرحباً، أهلاً بك، بعد أن سلم الأعمى عليه ولم يسمعه.
عقب فترة أخرى قال:
-أراك صامتاً.. ماذا دهاك؟
رفع الأعمى صوته:
-لو رأيت وسمعت.
-ماذا؟
-الساحر.
-هو ذلك منذ القديم.. لقد رأيت ولقد تلاعبت.. كل يتلاعب بفعل السحر، فله وقع الهوى على النفوس..
وعدا أولئك الذين على شاكلتك من ذوي الرؤوس الصلبة، فإنما هو هذا شأنه على الناس جميعاً.. على أية حال فإنه قد مضى بالنسبة لرجل مثلي أوان الركض وراء مثل هذه الألاعيب وإن كانت مثيرة ومغرية.. جسد يقطع ثم يلتم والواحد عشرة، والشيء لا شيء، والحبل عمود، والخرقة حمامة.. الألاعيب نفسها.. كما ترى..
كاد الأعمى يرفع عقيرته مرة أخرى ليقول شيئاً وجد في النهاية أن لا جدوى من الإفصاح عنه فآثر الصمت والركون إلى الراحة.
في هذه اللحظة هذه لم يكن الساحر اكتمل سعادة أو انتهى معجزات، صدمته كرة أخرى النظرة الغريبة الثاقبة التي ما فتئت تبثها عينان بلوريتان لم يجد مندوحة من تفاديهما إلا بالبحث في الآفاق عن حمامة جرحت فؤاده إذ ولت هاربة ولم تعد إليه، فتبين هنالك غيوماً فائرة سوداً تحمل في أحشائها مطراً غزيراً وتنذر بعاصفة هوجاء.
عندما عاد وعقد منديله عقدة أو عقدتين، وطواه بين كفيه مرة وأخرى ليلتقطه، من بعدُ، من طرفيه وينشره مثل راية لعوب تخرج من أعطافها حمامة بيضاء، كانت يداه المرتجفتان تتحديان في محاولة عقيمة ما بات يدهم عينيه من نظرات لها فعل النار على الهشيم، وكان صمت مترقب مريب يسود الساحة هذه المرة، كذلك الصمت المخيف الذي يفصل بين خصمين متكافئين قبل أن يبدأ النزال.
قبل أن تبرز المرأة هذي من صفوفها وتهتف به وتقول، خذني إليك، قطعني إن شئت، كان هو، لكي يحطم ضعفه المفاجئ، كمن يلقي بنفسه في النار دفعة واحدة بعد أن وجدها تحدق به ولا مفر منها حينما حاول أن يتقدم منها ويلتقطها بيديه ليجري عليها أغرب ألعابه وأقربها إلى نفسه.
كان الرجل الذي ترك المرأة المضطربة تداري ما أحدثته ألسنة الريح القادمة في أطراف ملابسها، ينظر للمشهد من بعده القريب فيرى الساحة وفارسها المأخوذ والمرأة الأخرى يتقدمان كل إلى خصمه في سعي حثيث، هي تهتف به في جرأة نادرة خذني.. قطعني أشلاء إن شئت، وهو يهتف في حرارة ملتهبة، ها أنا ذا قادم لتري ما يفعل سيف مثل سيفي وما تقوم به يدان مثل يديّ، لكن الريح التي انطلقت مثل إعصار كانت أقرب إليه من سيفه إليها إذ اقتحمت الخيمة وقطعت حبالها وفضحت باطنها المرقع وروّعت الصبي المنزوي في ركن منها منتظراً دوره الجديد، وأباحت للآخرين أن يستولوا على الساحة وأرض الخيمة المنهارة في فوضى عارمة أذهلتهم فيها الأشياء المتخلفة من حبال تالفة وصناديق خشب متداخلة وحمائم هزيلة في أقفاص ضيقة وسيوف خشب وسيوف حديد صدئة.
عبر ذلك كله كان أولاء يلاحقون الساحر الهارب بصبيه المذعور، بنظرات كانت لا تزال غائمة، حتى إذا غيب الاثنين زقاق متكاثف يشرب ضوءه الشحيح من فضاء الساحة ذاتها، عادوا كرة أخرى يتابعون بقية ما خلفه لهم ساحر مهزوم من مرايا مشوشة وخرق مناديل، يتابعونها بأسى كان يتنامى حيناً بعد حين وعلى شفاههم المرّة ضحك كالبكاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق