كان عليها أن تتردد كثيراً أو قليلاً قبل أن تضع يداً وانية تمس بها كتفه مساً رقيقاً وتقول بصوت واهن كالخيط.
-محمود يا محمود.
ذاب صوتها في الحلم العميق وتلاشى في طبقات عز النوم واختفت اليد التي كانت تتوسله في الظلام.
هبطت إلىالجانب الأرضي واضطربت الصور في عينيها وتمنت ما تمنت، لكن آلامها وهي تستبد بها وتنبؤها بولادة مبكرة ويدهمها خوف ما بعده خوف تحفزها على أن تعود ترتقي السلم وتلقي عليه نظرة وجلة وهو مسترخ تماماً وتناديه بصوتها الواهن ذاته:
-محمود يا محمود.
انتظرت لحظات عاصفة وكررت:
-محمود، محمود.
فتح عينيه على خط باهت من نور الفجر يخالط ظلمة الليل، وعجب منها هي المرأة الذكية تجرؤ عليه فتوقظه لايما سبب في مثل هذا الوقت والمناسبة عطلة خاصة والفصل صيف.
كاد يعود لنومه لكن عجبه أزاح عن نظرته غشاوة النعاس فاشتد وعيه بها وتجلت صورتها لعينيه وقال:
ماذا؟
قالت وهي لما تزل ترتجف وجلاً.
-أشعر بآلام.
لم تقل آلام الولادة إذ كيف تقول ذلك وهي التي أردفتهن أربعاً رأساً فوق رأس، ثم كيف تقول كلاماً عن شيء لم يجر الكلام عليه إلا نزراً طيلة أشهر انتفاخ البطن، وكأنه ذنب لا يلتمس إن تحرك إلا أغوار الهمس وأغوار الظلام؟
نهض من فراشه وكان يود لو أنه يسمع الآن غير هذا الذي تقول ويرى غير هاتين اليدين اللتين تلامسان أسفل البطن أو تتحولان نحو أسفل الظهر.
هبط السلم وقد قهر نفسه على الهبوط بسرعة وارتدى ملابسه وخرج إلى الشارع العام بانتظار سيارة أجرة تنقلهما إلى المستشفى.
كان الشارع جديداً خالياً إلا من أعمدة تحمل في نهاياتها المقوسة مصابيح تنث نوراً أبيض، يشع في مدى محدود، ويتلاشى كلما امتد نحو مدى أوسع غارق في غبشة الفجر.
كانت تقف على عتبة الباب متأخرة عنه بضع خطوات، تحاول أن تستمد من آلامها شجاعة ما لتقول هيا، فتصطدم بالشارع الموحش وتراثها المقهور.
شعت من أقصى الشارع أنوار سيارة كانت سرعتها تزداد مع الرغبة الملتاعة حتى مرت من امامهما محملة بجنود.
-إنني أتألم يا محمود.. أكاد أموت.
قالت ذلك وهي لا تعرف من أية زاوية تمسك بالألم الذي يمزق أسفلها، تطايرت عيناها إلى يمين ويسار وهي تختلج على دفقة لزجة ساحت من بين فخذيها فتأججت رغبتها في أن ينقلها على جناح طير أو نسمة ريح وقد بدأت تدرك بيقين لا يرتقي إليه شك أن مثل هذا الألم لا يعرفه وقد لا يصدقه الرجال.
ولاح لها الأمل في عينين كبيرتين متوهجتين انبثقتا من جوف فراغ معتم بعيد، حتى إذا مضى زمن بثقل الرصاص، بان الجسد الحديدي متباطئاً ثقيلاً محملاً بعمال مبكرين يتوسدون أكتاف بعضهم البعض، ويواصلون نومهم على هدهدة الجسد القديم.
كان الرجل- والأمل في الحصول على سيارة أجرة في هذا الشارع المقفر يتضاءل في عينيه والألم الذي يتبدى على وجه زوجه يتضاعف بالتدرج- يقف على أعتاب حيرة لم يعرف مثلها من قبل إذ ما الذي بمقدوره أن يفعل وما الذي كذلك بمقدور سواه؟
بدأت المرأة تولول وكانت تحس أن الوضع يدركها، وأن مع القادمة المجهولة إن لاحت بعض الأمل وإلا فقد يتقرر مصير هذا القادم الجديد على تراب هذا الشارع دون ريب.
وكما لو أن الإحساس بالأمل ولو بوهن شعرة لا ينبع إلا من يقين داخلي حتى لو كان بعيداً بعد السماء، فقد لاحت سيارة أجرة قديمة من جهة اليمين ومن حيث لم يتوقعا، إذ كانت السيارات تخرج عادة من المدينة الصغيرة نحو المدينة الكبيرة تنقل العمال والموظفين والجنود وليس العكس، وكانت هي الأخرى لا يبدو على سائقها انتظار أو توقع أجرة ما، لكن يده المتحفزة تطاولت كثيراً حتى سدت الشارع ومنعت على السيارة وسائقها رؤية الطريق.
توقفت السيارة لحظة ثم استدارت على صوت الرجل يهتف بالسائق حاداً ملتاعاً، إلى المستشفى، إلى المستشفى رجاء، ثم لم تمض ثوان حتى انطلقت في شارع يبدو لعينين أخريين كنهر ساكن مستأنس بنور الفجر.
فيما كان الرجل يتطامن ويحمد الله على أن السيارة جاءت في وقت كاد يخيب فيه الرجاء كانت المرأة تجاهد وتتصابر وتصوت وتموء.
-آه يا محمود.. دعه يسرع.
سوف ألد يا محمود..
وفي الوقت الذي كانت فيه تتحفز لكي تفعل شيئاً لم تنس أن تدعو ربها أن يكون المولود ذكراً.. ذكراً لا غير، وكانت تود لو تطير.. لو تخترق جسد العربة لتحط على سرير أي سرير، أو لو أن يداً نبوية تمتد إليها، تمسح عنها هذه الآلام التي ما برحت تشتد وتثقل عليها حيناً بعد حين.
شعرت بجوف السيارة ينضم عليها ويحيط بها وهي تلتف بثيابها وتتأهب بإيمان مطلق لرحلة لم يكن يخطر في خيالها أن بمقدورها وحدها أن تقوم بها أو تحدث لها على مثل هذا الحال.
وتركت كل شيء يسير لحاله فلا هي الآن تطلب من السيارة أن تطير، ولا من زوجها أن يفعل المستحيل، ولا من سرير أي سرير أن يقدم عليها على هيئة بساط ريح..
لقد تحول مقعد السيارة إلى سرير، والسيارة ذاتها إلى مستشفى، وهي ذاتها وقد ارتفعت فوق آلامها إلى ممرضة وطبيب، وهكذا في دفقات كانت تساعد عليها مطبات الطريق انزلق الذي سيسمى رجلاً فيما بعد.
وفيما هذا يستقر تحتها محوطاً بكتل من لحم ودم قبيل أن تقف السيارة عند عتبة باب المستشفى، ولكي تنام نومها الهادئ السعيد كانت يدها تمتد خافقة نحو فخذين طريتين لزجتين تتحسس ما كان يرقد بينهما من نتوء صغير صغير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق