أغلب الظن أننا لم نكن فعلنا حسناً حينما انتبهنا إلى أن الفأر الأول الذي ظهر في بيتنا لم يكن فأراً، إنما نقطة ضوء كشفت ما كان متراكماً تحت سرير نومنا من تراب وغبار، واكتفينا أخيراً بتنظيف البقعة منهما وفتح نوافذ البيت.
كذلك الأمر، حينما أطلقنا سراح الآخر الذي ظهر بعد حفيده بعشر سنوات وإذا كان الأول قد فاجأنا بظهوره المفزع الذي بلبل وحدتنا وهزّ سكوننا، وجعلني أتهم هذا بالغفلة وذاك بالتقصير عن ملاحظة ما يدخل البيت أو يتراكم فيه، فإن الثاني جعلنا نتراخى عن اتخاذ عمل يستحقه من قتل بالنفط أو بالماء الحار، حتى غلب علينا قرار أطفالنا بإطلاق سراحه في ساحة كبيرة تبعد عنا بعض البعد، قبل أن نسمح لصوت كاد ينبثق منا يدعونا للاحتفاظ به في مصيدته وإطعامه إلى أن يشاء الله له ما يشاء.
حسناً، قلنا، إن الفأر إذا أبعد عن بيته فلن يعود إليه كما هو حال القطط والكلاب، سيما إذا كانت المسافة الفاصلة بعيدة ويتخللها الكثير من الأبنية والفراغات، وإن أحداً لم يجرب في حياته مرة واحدة أن يبعد فأراً ليراقب حركته وسلوكه، وفيما إذا كان سيقطع المسافة لمكمنه أم لا، بل لعل الأرض بما وسعت ستكون ملكاً لحريته ومرتعاً لهواه، يختار منها ما يشاء ويترك ما يشاء.
على أن الفأر هذا الذي تصفه الكتب والكتاب بالقزامة والقماءة غالباً ما ضلل الناس وعاش بينهم، ثم إذا اكتشفوه من دون أن يعلموا شيئاً عما صنعه بأشيائهم، عطفوا عليه وتوسلوا – على نظراته الدقيقة المسترحمة- الرحمة والرأفة به وأطلقوا سراحه.
وهكذا فقد أحسسنا بالراحة عندما حكمنا على الفأر الثاني بالنفي إلى ساحة أشبه بالجزيرة، وعدنا إلى ممارسة أعمالنا يحيط بنا الاطمئنان بل السعادة التي تعقب العفو عن لص صغير ابتغى السطو على زهرة من حديقة البيت.
غير أن ما بدد اطمئناننا وسعادتنا جداً، هو عودة ذلك الفأر – أو هكذا ظننا- قاطعاً المسافة الطويلة بينا وبينه من دون أي استئذان أو اعتبارولم يمض على موقفنا المتسامح منه سوى بضعة أيام.
وإذ أحدث ظهوره بلبلة لم تكن حصلت بيننا مثلها من قبل، فإن آراء جديدة من آخرين منا برزت تقول، ومن أدراكم أن الفأر هذا هو ذلك الذي أطلقنا سراحه وليس فأراً آخر دخل بيتنا من الجيران أو هبط من السماء أو حتى ظهر من داخلنا، من زوايا ودهاليز هذا البيت؟
ولما لم يكن أحد منا يملك أي دليل على هوية هذا الفأر، وفيما إذا كان هو ذلك الذي نفيناه أم غيره، ما دامت الفئران جميعاً على هذه الشاكلة من الشبه الشديد بحيث لا يمكن تمييز فأر من فأر، فقد التمسنا العذر لكل رأي ومكثنا حائرين نتوسل الوسيلة التي نقبض بها على هذا الفأر الجديد.
من حسن الصدف، إننا لم نُعد المصيدة إلى أصحابها لما ساد حياتنا من هدوء بلغ بنا نسيان كل شيء يتعلق بالمصيدة والفئران، فألقمناها من جديد جلدة هزيلة من قصّاب كانت لنا معه مزابنة ذات يوم بعيد.
كنا نقول، بل جعلنا نتسابق إلى القول، إن وقوع الفأر في الفخ سيثبت لنا أنه فأر آخر جديد أو غريب، وليس ذلك الذي عفونا عنه قبل أيام، انطلاقاً من اعتقاد عائلي يقول: إن الفأر لا يلدغ من مصيدة مرتين، وعلى هذا يكون علينا أن نحسب لهذا الأمر أكثر من حساب، من أين أتى، ومن أي جهة بالضبط وفي أية كيفية دخل البيت أو من أية زاوية من البيت خرج، وكم وراءه من فئران، ولماذا ظهر الآن ولم يظهر من قبل، ثم لماذا تغدو الفئران وتروح في هذا البيت دون غيره من البيوت؟
حقاً.. لقد أيقظ فينا هذا الفأر أسئلة ما كانت تراود أذهاننا قبل الساعة، وفتح عيوننا على البيوت الأخرى، وهل عساها شغلت يوماً بما شغلنا به قبل سنوات، ثم قبل أيام ونشغل به اليوم؟
لم تكن ثمة أجوبة قريبة أو محددة عن أي سؤال، ذلك أن أحداً لم يطرق بابنا يوماً يشتكي فأراً ظهر في بيته أو عبث بفراشه، كما أننا لم نحدد هوية هذا الفأر لنترك أعمالنا ونشغل به أنفسنا بعد أن أعددنا له سلاحاً مجرباً يتكفل به ويجنبنا شره بعد يوم أو يومين، وعلى هذا وذاك وفي إطار قلق لا يمكن إنكاره، واستكانة تراود كسلنا وتغازل نزوعنا الفطري إلى الدعة والسكينة، بتنا نترقب اصطياد الفأر.
ومن يستطيع أن يفسر كيف ساد البيت هدوء ما عرفه من قبل، شابه ترقب صامت حسبنا معه، أن من حسنات بعض الشرور الصغيرة أن تحمل الإنسان على إتيان أشياء حسنة لم يكن مارسها في حياته، من قبيل المشي على رؤوس الأصابع أو التكلم همساً أو بالإشارات أو الامتناع عن الصعود إلى الطابق الثاني الذي وضعنا المصيدة في واحدة من غرفه، في جلبة وصخب.
كنا شاهدنا الفأر أول مرة قبل الغداء، أما وقد تناولنا غداءنا ومضى على ظهوره بعض الوقت فقد شاهدناه ثانية يهبط السلم مسرعاً وبمحاذاة جدار غرفة نوم الأطفال ويدس جسده الهزيل في كوم الأحذية التي تراكمت أسفل السلم ويختفي هناك.
ولما عرفنا بعض المعرفة قدرة الفأر على المراوغة والتضليل، فقد انتشرنا هنا وهناك وكل ينتظر دوره للإمساك به والعثور عليه، مع الأمل بأن مصيره إن نجا من أيدينا سيكون في الأعلى حيث تنتظره مصيدة جربنا قدرتها الفائقة على الإطباق السريع.
-2-
كان صباح اليوم الثاني، وقد طال انتظارنا، أشد وطأة علينا من اليوم الذي سبقه، إذ نهض كل منا، يحمل همه الخاص وهم الفأر. فلقد أصبح هذا حقيقة راسخة مثلت أمام أعيننا مرتين صارت المصيدة إزاءهما أقلّ توهجاً، وانطفأ في أذهاننا ذلك التعلق الأصم، ليس بكفاءتها على الإطباق المحكم على من يدخلها وحسب، وإنما بقدرتها على إغواء من يقترب منها بعد أن كانت تتوهج بإغراء سحري أضفيناه عليها إضفاء الحائر المعوز، وبناء على متانة صنعها ونجاحها السريع كما حدث في المرة السابقة.
على أية حال ونحن في طرقنا للانتشار في الأرض، أنا لعملي وزوجتي لوظيفتها والأولاد لمدارسهم، صرخ أحدهم:
-ابتاه.. الفأر..
انعطفت أجسادنا نحو النقطة التي أشار نحوها فألفيناه يرتقي السلم بخطوات من نفذ واجباً أو رفع عن نفسه كلفة وعاد إلى مكانه خلي الذهن مطمئن البال، يستخفه فرح وتحف به سعادة.
وساءنا جميعاً أن نشاهد فأراً ليس غير يفلت من اثنتي عشرة يداً، فيربك خواطرنا ويلقي بالحيرة على نفوسنا، ثم ما إن يصعد إلى الأعلى حتى يعود يهبط مرة أخرى- إن كان هو ذاته وليس غيره- يغازلنا أو يتوعدنا، لم نعد ندري، بنظرات مسمارية سود ويختفي في لحظة قصيرة بعدأن كنا تابعناه متوجهاً نحو غرفة الأطفال.
إذن كان الفأر هذا يعرف وقت انصرافنا إلى أعمالنا ومدارسنا، ويدرك بالتالي حراجة موقفنا في لحظات كالتي نحن فيها الآن، فغادرنا البيت مرغمين قبل أن يدركنا الوقت، وتركناه له ينقب أو يثقب فيه كيفما يشاء حتى يقيّض الله لنا أو للمصيدة فرصة القبض عليه.
وأذهلتنا المفاجأة، بعد أن عدنا، وجمدت نظراتنا على وجوهنا في عتاب ولوم ساخرين إذ وجدنا المصيدة قد أطبقت مرة واحدة على ثلاثة فئران.
لم نكد نحدق جيداً حتى كانت المفاجأة أشد حينما لفت نظرنا خيط دقيق من دم أسود سال وجمد على رقبة فأر منها، فيما كان آخر مرتمياً جنبه ممزق الجسد منثور الأطراف.
إذن، لقد قتل هذا الذي يرتكن زاوية وينظر إلى عيوننا نظرة الاستسلام، قتل الاثنين في صراع دموي على جلدة اللحم التي اختفت، لا بد، في جوفه بعد أن زاحمه عليها الآخران.
-يا للغرابة!
هتف من هتف وقد تحركت دماؤنا وشاعت فيها حرارة تجاوزنا عليها اللوم الصامت والكلام الأخرس وما همهمت به القلوب ومات على الشفاه.
-عجباً، إن ثلاثة فئران تدخل مصيدة مرة واحدة أمر لم يحدث من قبل، وكم يا ترى خلّفت وراءها، وكم من أخريات، وكم من مصيدة يحتاج إليها هذا البيت إن صدق الظن. انبرت زوجتي تقول.
مقابل ما ظننا أن الفأر بدأ يشعر به، كنا نشعر نحن أيضاً، إذ أُسقط في أيدينا، وما عاد أملنا معلقاً على مصيدة أو مصيدتين.
تركنا المصيدة على حالها، فما بدأ يعنينا الآن هو أن نعرف إن كان في البيت غير هذه التي تحت أنظارنا من فئران.
-عليكم بغرفة الكتب ودهاليز المكتبة وأكداس الصحف والمجلات الصفراء.
أضافت في نبرة غضب فضحت امتعاضها مما كان عليه حال غرفتي التي هجرتها لحرارتها صيفاً، وبرودتها شتاءً.
-ولا تنسوا غرفة الفراش.
كذلك هتفت أنا الآخر، معبراً عن برمي بغرفة مجاورة لغرفة مكتبتي أطللت يوماً على عبث الأطفال فيها وساءني أن يتسرب إليها من زجاجة محطمة فيها غبار وتراب.
وعبثاً حاولنا كتم صراخنا على مشهد أفراخ الفئران التي ترقد بين الكتب وفي الزوايا والأدراج.
وعبثاً جربنا ضبط أعصابنا على الكتب المقروضة والرسائل الملتهمة، وعلى بقايا ما كان يشكل تَلاًّ من صحف ومجلات ذهبت تحت أسنان دقيقة نفذت إليه من نقطة من أسفله حتى لا تكتشفها العين وبدأت تقرض فيه، ولم تبق منه غير كوم من قصاصات صغيرة تشبه نشارة خشب قديم.
وإذ لم نجد ما بوسعنا فعله بإزاء ما فعلت فئران لم تجد في بحبوحتها الإ قرض الورق، انعطفنا نحو غرفة الفراش ليهتف من كان أسرع منا، أن أسرعوا بعد أن رفع الأفرشة التي احتفظنا بها لأغراض ضيافة لم تتحقق منذ سنوات.
لم يكن عجبنا في هذه الغرفة بأقل منه في التي سبقتها، فلقد روعتنا الثقوب والأضرار التي أحدثتها في الأفرشة فئران لا عد لها ولا حصر، جعلت تتقافز فوق رؤوسنا أو تتسلق الستائر والأفرشة، ثم ما تلبث أن تقذف بنفسها لتختبئ في الزوايا والأركان، وقد هالها هذا العدد غير المرتقب من الناس.
وعدا هذه لبثت أفراخ شبه صماء شبه عمياء تنام مطمئنة في زوايا خبيئة مفروشة بنثار من ورق وقطن وصوف، وكما لو كانت قطعاً من الفراش الذي نامت عليه.
وما الذي بمقدور أحد أن يفعل لنفسه في مثل هذا الحال غير الاستسلام والنظر هنا وهناك تائه الفكر مضطرب البال يفكر في ما عسى أن يفعله بنفسه أو ما عسى أن يقدم إليه الآخرون. لقد عقدت ألسنتا وتراخت أعصابنا، وباستثناء كلمات فكرنا بها أو تداعت على عروق ألسنتنا؟ (لِمَ كل هذا، وأين كنا من هذا؟) فلم نقل شيئاً.
ولئن توقعت ما سوف يسفر عنه صمتنا وذهولنا من إضاعة للوقت وترسيخ للغفلة والكسل، فقد أعلنت عن وجوب إخراج الكتب مما ضمته المكتبة والصناديق، وكذلك نشارة الصحف والمجلات ورميها جميعاً في حديقة البيت، ثم أضفنا إليها الأفرشة التي غدا أمرها مخجلاً لا علاج له أو ميئوساً منه وأشعلنا النار.
فإذا شم الجيران رائحة الحرق وامتلأت صدورهم بالدخان وتحلقوا حول البيت مأخوذين لا نرى منهم سوى عيون ملتهبة تتسلق وجوهنا من وراء سياج، أطفأنا أسئلتهم بأعذار شتى:
-إنه شيء خاص.
-إنها أشياء فائضة عن الحاجة قررنا التخلص منها.
-لقد اتسعت عائلتنا وما عادت الغرف تكفينا.
-ما يحترق شيء تافه ورخيص.
-3-
كان حزني أشد الأحزان.. ففضلاً عما فقدته من رسائل حب قديم عطرتها ذكريات لا تنسى، وكتب ثمينة لا أستطيع تعويضها، فلقد كنت أشاهد قصصها الجميلة وأحاديثها المترعة وصور قديسيها وشهدائها تتضرع ملتاعة أو تتلوى حزينة دون صوت، دون صدى تحت لهيب النار.
ما كان شيء يوازي حزني هذا سوى همّ التخلص من فئران كأرتال الجراد بدأت تهبط السلم لتتسرب هذه المرة نحو غرفة المعيشة والمطبخ وغرف النوم، تتسلق الجدران وتتعلق بالستائر وتقتحم صناديق الساعات، توقف العقارب وتطل من خلف الزجاج، تقول بعيون ماكرة لعوب، تذكرنا بما كان ينبغي علينا أن نفعل قبل عشرين، أو قبل ثلاثين: أخرجوا من هذا البيت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق