أخبار قناة العربية

Chat With Your Friends Freely And Openly .. No Limit For Time

الأحد، 13 يونيو 2010

حنون مجيد .. قصة قصيرة : ظنــــون

قبل أن يضع قدميه على مقدمة الجسر تنبّه، كما لو في يقظة مفاجئة، إلى أن ثمة سراً ينطوي عليه صدر هذا الصباح، حين ارتدت لمخيلته القريبة صورة الساحة الترابية الكبيرة التي تتصدر جبهة الجسر، وقد انكمش في فضائها الرحب عدد من بائعي السلع والحاجيات الرخيصة فيما انسحب آخرون منهم إلى أماكن مجهولة تاركين عرباتهم بلا أصحاب.
أما النهر الذي يشطر المدينة إلى شطرين، فلقد انعكست على صفحته الدافقة صفحة نهار طلق كانت تتحرك تحت سمائه الزرقاء حشود بشرية مدلهمة معتكرة لا أول لها، تعبر، في عثار متصل، الجسر الذي يربط بين سوقين شعبيين.
غادر الرجل بغداد مع السادسة صباحاً، إذ يحلو له السفر إلى هذه المدينة في وقت مبكر لما يحققه الجو المشبع بالظلال والندى من راحة عميقة تعيد لـه صدى الصباحات البعيدة التي غرز في حقولها الندية أقدامه الصغيرة ذهاباً إلى مدرسة، أو سعياً وراء هدف.
كانت المدينة في أول صحوها تلتقط مع الربع الأول بعد السابعة أطراف يقظتها، شوارعها المستقيمة شبه مهجورة وأزقتها الملتوية سمراء لم تنفذ إليها شمس بعد، وكان ألقى أنظاراً، فيها جذل على أبواب مغلقة يدور خلفها الصمت، وأخرى مواربة، انسلّ قريباً منها، نحو دكاكين محاذية أو مجاورة، بعض أهل.
كل ما في هذه المدينة التي ينزع لزيارتها من حين لآخر، يرسم لعينيه صوراً من مدن جميلة أمضى فيها، في أعمال وظيفية، أزماناً مختلفة، بل إنها وفي بعض ملامحها تذكره بأول حي وطأته قدماه بعد أن هجر قريته إلى بغداد، كان الحي ظليلاً وأزقته دكناء تتطلع عبثاً قبل العاشرة إلى الشمس، أبوابه مغلقة حتى ما بعد السابعة صباحاً، أما نساؤه وأجملهن سليمة فكن بيضاوات يزداد بياضهن كلما.. وكثيراً ما، تلفعن بالسواد.
بدأ الجسر يشتد ازدحاماً، تتوقف الحركة فيه حيناً ثم إذا انفرجت شيئاً اشتدت ثانية ليصبح العبور إلى الجانب الآخر، من بعد، عسيراً.
يستلقي نظره على الناس في انبساط تلقائي طلق، رجال موظفون أو متقاعدون حرصوا على نظافة ملابس متعبة يأخذون سبيلهم بصمت وصبر، أيديهم مسبلة وعيونهم إلى الأرض، نساء متلفعات بعباءات سود حائلة يحملن حقائب وأكياس التسوق، يثرثرن قليلاً ويتشوفن بقلوب واجفة لمقررات السوق هذا اليوم، أطفال شبه حفاة يلوذون بأذيال أمهاتهم، حذرين مما قد يلحقهم من أذى جراء احتدام الأجساد، مشتتو الفكر في ما عساها تجلب لهم رفقة الأمهات إلى الأسواق، وعدا شبان يحاولون أن يشقوا طريقهم عنوة منفعلين باختناقات الجسر، فلم يكن هنالك من يبدو عليه أنه في عجل من أمر.
صورة مغرقة في الواقعية، فكر، وهو يشم في هذه الحركة وهذا الزحام رائحة الناس والعمل، بل إنه كان يرى في الوجوه على ما يرين عليها من انسحاق وعبوس، صور الوجوه العميقة التي زرعتها في رأسه خيالات القصاصين ورسوم الرسامين.. وجوه حادة مظللّة تضرب عليها حزم الشمس الناهدة فلا تزيدها إلاّ دكنة وعمقاً يؤطرها ذلك الذي يبدو هماً دفيناً يغرب نظرتها ويذكي من اغترابها.
وعلى الرغم مما كان يتبادله هؤلاء من أحاديث عابرة، فلقد ساد الجميع طابع الصمت الذي يعانق ترقباً ما، حتى ليخيل للناظر من بعيد أن أولئك ليسوا سوى غرباء لم يربطهم إلى مسعى واحد غير الجسر وتينك السوقين.
عند سفره يتحرر الرجل من بغداد، من طغيانها الجارف وسطوتها الجامحة، فهو هنا يراقب الناس بحرية ويسر، تستثيره صورهم المرسومة بيد فنان فطري آلى على نفسه إلا أن تكون أنامله حادة جارحة.. ينظر إلى عيونهم، يستقرئ انفعالاتهم وأحاسيسهم، يستبطن ما تحت هياكلهم ويتوغل في خفاياهم، يختلف إلى مقاهيهم، يتلصص بمجانية مطلقة على قصصهم، ويسترق السمع إلى شكاوى فلاحين وفدوا إلى المدينة لشراء حاجة أو زيارة طبيب. وهو لا يسعد لأن أحاديث هؤلاء تبعث في صدره رائحة أحاديث أولئك الذين عاش بينهم طفولته وحسب، إنما لأنه يستعيد في صدقها وفجاجتها وعمقها صورة: أرض تفجرت عن ماء دافق، أو جدول تشققت أرضه بعد أن جف ماؤه، أو طائر رفرف بجناحين مجهضين تحايلا على ثعلب وطأ عشاً لـه فيه أفراخ صغار.
في طريقه إلى المدينة ذي يستعين على بعض جفافات الطريق بديوان شعر يقرّظ للطبيعة يقرأ فيه*:
غبار على الماء تنطلق اليابسة.
لتطوي بنا الدهر، كنا نبايع ما يبتغيه الغبار
ونفرح لما يصد الجدار
لماذا نقلب هذا الكتاب وتلك الجريدة ثم يميل النهار
ولا نقرأ النهر حين يحط الغبار؟
أو بآخر يغازل فيه شاعره عيون حبيبته!**
أعميقة العينين لما ملت أنهل منهما
أبصرت مرآة تخايل ماءها كل الشموس
ويرتمي فيها لقاء الموت كل اليائسين
عميقة العينين حتى إن ذاكرتي تتوه
أظلت الأطيار أمواج المحيط المضطرب
الجو يصحو فجأةً فتحورت منك العيون
وفصل الصيف السحابة في إزار ملائكة
إن السماء على حقول القمح أزرق ما تكون
على تثاقل حركة الأجساد واشتداد تلاحمها، ثم وهي تزحف زحفاً عسيراً، منصرفة بكل طاقتها إلى جانبي الجسر، توقف الرجل وبدأ يستطلع قامات الناس المعلقة بنقطة معينة من النهر.
فتح عينيه وأرهف أذنيه واستدار نحو الجهة التي اتجهت إليها الأنظار، ثم طفق يبالغ في إصغائه لما أضحى هؤلاء يهمهمون به من أحاديث ما كان يتبين منها سوى أسماء أشخاص.
كان الناس على ما بدر منهم من ذكر للأسماء يقتصدون في أحاديثهم ويتكتمون في تداول أخبارهم، يخالط ظنونهم شيء من بلبلة مصحوبة بخوف، إذ قد ينفرد رجل بآخر ويسر إليه باسم معين، أو قد تشاور امرأة أخرى على اسم آخر، فيما كان الشبان والأطفال يذكرون الأسماء في تردد أقل وفي حافظة كما أن ليس من دأبها إلا اختلاق الأسماء.
فيما كان هؤلاء يقترحون الأسماء اسماً بعد اسم أو يضيفون إليها وفي حالة أشبه ما تكون بامتحان للذاكرة عمن قتل في تاريخها الطويل أو أغرق أو مات، كانت هنالك أسماءٌ أخرى تتردد على ألسنة آخرين: ساق شجرة، حيوان نافق، بقرة، حصان، كذا، كذا.
ولكي يستنتج رأياً محدداً عما راح الناس يختلفون فيه فقد تطاول على رؤوس أصابعه وسرح بصره إلى حيث أبصارهم تشير. نعم كان ثمة نقطة سوداء بعيدة بعض البعد، تتقدم متباطئة ضاق بثقلها الموج، فاسترسل مندفعاً فوقها متقدماً عليها من دون أن يغير كثيراً من قرار سرعتها أو تقدمها.
كانت النقطة هذه تقترب رويداً رويداً، ولكن في تهادٍ ثقيل ثقيل كما لو أنها تحاول أن تستنزف ما أمكنها فضول الآخرين، وكان الشيء الذي تراءى للناس منها رأساً- غارقاً بعض الشيء لا يلوح منه إلا الجزء الأعلى من قمته، في الوقت الذي كان الجسد فيه مختفياً تحت الماء ملتحفاً بدثار من موج غريني أحمر ثقيل لم يسمح إلا برؤية سواده الممتد على هيئة ظلال طويلة تنبثق في إطلالات متواترة من عمق الماء.
-إنه أحمد.. لا أحد سواه.. إنني أعرفه.
قتل ورميت جثته في عرض النهر،
وهناك سيرسو عند الغابة حيث
منعطف النهر إسوةً بآخرين.
بذلك وضع أحدهم فمه على إذن رفيقه وأسر إليه بينا سحبت امرأة أخرى من يدها وحاولت دون جدوى أن تنسل بها بعيداً عن تدافع الحشود، وكانت أفواج أخرى من الناس ازدحمت على الجسر، أو تجمعت على الشاطئين عند الحدود التي تسمح بها ضفتا النهر اللتان ازدحمتا بما نبت عليهما من نبات وحشي من بردي وقصب ونبات آخر غريب وهمست لها:
-تعالي يا أخيه.. إنه المجنون الذي دوخ المدينة بأفعاله الغريبة، غراماً بغريبة ابنة الحلاج.
ردت الأخرى مؤكدة ظنونها:
-آه.. هو ذلك. انظري إلي شعره الكث وجسده الذي ناء بثقله الماء.
ثم بعد فترة من الصمت استدركت هذه منقلبة على ظنونهما الأولى:
-وما يدرينا، فلربما هو محمود
..ذلك الذي أورث المدينة حزنها
المستديم، غناء على أخيه القتيل.
انقطع الحديث بين الرجلين، كما انقطع بين المرأتين، بل إنه قطع لما صار يفصل بينهما من جدار بشري كلما أراد فرد منه أن يفرد لنفسه مكاناً خارجه، وجد نفسه في المكان ذاته، وقلما كان هنالك من استطاع النفاذ إلى مكان أفضل، سور الجسر مثلاً.
على أن هؤلاء إن جمعهم جامع، فقد شتتهم كذلك وعلى حد سواء إذ لا يزال الشيء ذاك الذي تلتم عنده الأنظار جميعاً، وينبثق من عمق الماء من غير أن يفصح عن هويته ولما يزل ثقيلاً مكتفياً بذاته، نائياً نأياً صامتاً عن اندفاعات الموج وتيارات الريح ورغبات الناس، لايزال جثة، شيئاً، أحمد، سالماً، علياً المجنون، حماراً، خروفاً، وحتى وهو يقترب الاقتراب المتثاقل، الذي هو عليه منذ لحظة اكتشافه، فقد ظل مبهماً وعصياً على الإدراك.

ولعل من قبيل المفارقة التي تزري بالمنطق، أن تترافق أخيراً مع اقترابه من سور الجسر بعد ذلك التثاقل المريب، سرعة غير مألوفة تحمله عليها تيارات وريح وموج تقذف به إلى ما تحت الجسر وتضرب عيون الناس وتحملهم على ليّ أعناقهم ولف أجسادهم في تهافت مضطرب مخبول نحو الجانب الآخر للجسر.
هنالك على امتداد الضفتين كان الناس يمارسون تطلعهم ذاك الذي بدأوه منذ لحظة تجمعهم بل إنهم للحرية النسبية التي أتاحتها لهم فسح المكان، كانوا يتابعون الشيء ذلك منقادين في حركة تتناسب مع حركته البطيئة، في الوقت الذي صاروا فيه يشعرون بالغلبة على أمرهم لبعد المسافة بينه وبينهم، على عكس ما هو عليه حال أولئك الذين استحوذوا على الجسر. أما وقد اختفى الآن فقد مكثوا واجمين.
في الفترة التي اختفى فيها وساد الناس ترقب جديد حول النقطة التي سيظهر فيها انقطع حبل التوقعات وخيم على الجميع صمت ثقيل ما كان يقطعه سوى بعض تأوهات ودمدمات، إذ من ذا الذي يستطيع أن يقول شيئاً عن شيء لا يعرفه ولا يعرف أي شيء عنه، وفي اللحظة التي صار فيها أقرب إلى اليد وأقرب إلى العين؟
بينما كانت فترة الانتظار تطول على الجميع، وتدفع بهم إلى معاناة ولوعة لم يعرفوا لهما مثيلاً من قبل، اندفع الشيء ذاك من خلف الجهة الأخرى للجسر متهادياً ثقيلاً صامتاً مرة أخرى، يعرف فضول الآخرين ولا يفرج عنه، إنما وقد وجد النهر ثانية ينضم عليه ويكتنفه في موج عنيف كانت تضخه بوابات الجسر، مضى سادراً مغيباً ومخيباً ظنون الجميع، الأمر الذي حمل أحدهم وقد انتهى إلى أن هذا صار مأخوذاً بموج ومدفوعاً من ريح، مهما كان ذلك الأخذ وهذا الدفع ولسوف ينأى ويختفي قبل أن يعرفه أحد وسيكون بالتالي همهمة على شفاه ميتة وسؤالاً مضافاً إلى أسئلة .. إلى أن ينبري هاتفاً بالناس:
-أيها الأخوة.. أيها الأعزاء.. تفرقوا.. وخير لكم أن تتفرقوا.. فإن كان هذا عندي أحمد، فهو عند آخر علي، وهو عند ثالث حصان أو غزال، وهو عند امرأة سمعتها تناجي أختاً لها ربيع عشيق غريبة ابنة الحلاج، ثم إذا هو هذا أو ذاك، سالم أخي أو محمود أخوك مثلاً، فما جدوى هذا الترقب ولماذا هذا الانتظار؟ ليقذف أحدكم بنفسه ويتقدم منه ليعرفه وليكفنا عناء هذا التجمع المقيت.. كان ربيع الذي اعتبر مجنونا يعشق غريبة ولا يكل من تمجيدها.
سكت لحظة يستجمع فيها شجاعته بعد أن غصّ صوته بعبارة فيها بكاء، ثم تابع:
-كان ربيع ذاك يعشق غريبة عشقاً جنونياً.. نعم.. ينظر إلى أطراف أصابعها فيقول تلك هي أغصان قلبي، ويرنو إلى خطواتها كما يرنو (السليم) إلى الشفاء فيهمس: ما أعذب رفرقة الطيور.. يترقبها ليل نهار ويقص على مسامعها أطراف الحقيقة فتطير. لقد طارت غريبة بجدائلها السود مرة ومرتين حتى إذا مرت من فوق مستنقعات المدينة تمنت لو تحولت إلى بساتين كروم.. لقد قتل ربيع بعد أن اعتبر مجنوناً يعبث بالمدينة، وقتلت غريبة بعد أن اعتبرت زانية.. ربيع صديق قلبي وغريبة أختي، وتباً لهذا النهر كم ضَيّع وكم أخفى وكم ازدرى بأولئك الذين رسوا عند غابته فتركهم فريسة للضباع.
أول وهلة لبث الناس منشغلين عنه فلايزال الذين ظنوا الشيء ذاك أحمد ظلّوا يظنونه كذلك، فما برحوا يتابعونه، وكذلك الذين ظنوه سالماً والذين ظنوه علياً، وحتى أولئك الذين ظنوه غريبة وتلك هي طافية علىبطنها والذي يلوح منها هو جدائلها السود ومؤخرة رأسها، وطنوا أنفسهم على ظنهم وكانت غريبة موضوع همهم واهتمامهم.
غير أن الناس بعد أن رأوا الرجل يمضي نحو الساحة الصماء، يقف وراء عربته الخشب ويضرب بصوته الحاد فراغها الأجوف، منادياً على سلع أكلتها الشمس وملأ فراغاتها الغبار، ومضى من الوقت ما مضى وقد تصلبت شرايين سيقانهم وجفت آبار عيونهم وتعبوا ويئسوا من معرفة الشيء ذاك أي معرفة، ولاتزال الريح تلهب أجسادهم بسياط باردة تنغرز في اللحم وتنال حتى العظم، تفرقوا وتباعدوا بعضاً عن بعض فرادى وجماعات.
انسحب الذين ظنوه ساق شجرة أو كتلة من قش ضخمة ملتفة على نفسها أولاً، ثم تبعهم الذين ظنوه حماراً أو غزالاً أو خنزيراً ثانياً، فيما راح ينسحب ولكن بعد لأي أولئك الذين ظنوه علياً أو أحمد أو محموداً، وسوى الذين ظنوه ربيعاً أو غريبة كان ثمة رجل سقط كتابه من بين يديه، مكث يتابع معهم أولئك الذين كانوا مثار ظنونه هو الآخر وأحزانه كذلك.

ليست هناك تعليقات: