دعوة للراحة
« إلى نعمان مجيد »
كان علي أن أجازف حقاً لكي أمد يدي لما كانت تحاول أن تسلمنيه من بين فتحات قفص حديد مغلق، يد مضمومة على شيء حسبته منذ الوهلة الأولى رسالة أو وصية إلى أحد ما.
كانت اليد تتحرك في إقدام وإحجام دائبين على حركة عيني صاحبها وهما تراقبان الشرطي الذي أسند جسده إلى مقدمة سيارته التي أوقفها وسط ساحة تشرف عليها دائرته، وطفق يقرأ جريدته بانتظار أمر ما.
في حركة صامتة، حركة من يحاول أن يختطف شيئاً أو يسلّم شيئاً ذا خطر كبير، غافلت الشرطي السمين ذاك، وأنا أراقب في الوقت ذاته جسده المرمي بثقله الهائل على مقدمة سيارته، واليد التي كانت لا تني تجهد في أن تلقي بيدي ما كانت منطوية عليه، والتقطت من بين أصابع نفذت من إحدى فتحات القفص المرتبط بجسد السيارة الخضراء، ورقة مطوية أودعتها زاوية جيبي قبل أن ينتبه الشرطي لوجودي، ويهتف بي: قف ما الذي تفعله هنا؟
ولكي أمنح الشرطي فرصة كافية لتغيير وجهة نظره، ما دام الشرطي هذا سميناً بهذا القدر، ولم ينعطف نحوي إلا بوجه منتفخ منع إفراطه في الحجم أن يبدو عليه أي شكل من أشكال الانفعال أو التعبير، فإنني تقدمت نحوه بثبات ومددت يدي إلى الجيب الذي ترقد في زاوية منه الرسالة وأخرجت علبة سجائري.
ألقمت فمي سيجارة وتهيأت لتقديم أخرى له في هدوء رصين كان كافياً لتبرئتي مما أثار شكوكه ويقطع عليه تحقيقه معي ويقول وهو يتناول السجارة بود:
-حسبت أنك كلمت السجين ذاك، أو ناولته شيئاً.
قلت بفرح غامر يؤطره الهدوء ذاته الذي كان يتنامى في داخلي حيناً بعد حين :
-آه .. كلا.. أنا لا أعرفه ومن هو ذاك؟
ابتلع الشرطي مع أنفاس سيجارته ما كنت أود حقيقة معرفته، لما نشأ بيني وبين الرجل من علاقة أقامتها الورقة المطوية التي رقدت في جيبي آمنة مطمئنة جوار علبة سجاير، الله وحده يعلم مدى حاجة صاحبها ولو لسجارة منها.
في إطار رغبة عارمة أشعلتها في نفسي السجارة التي كنت أرتشف أنفاساً عميقة منها، وددت لو دسست العلبة في يد الرجل السجين، فلعلها تخمد في نفسه حرارة ما، أو تكون أنيساً له في وحدته هذه التي لا بد أنه يعاني الكثير منها الآن.
ولأنني لم أعرف من الرجل الواقف أمامي سوى أنه شرطي سمين ويمتلك قلباً طيباً، أو هكذا قدرت، فلقد أرجأت ما فكرت فيه ريثما تسنح فرصة مناسبة أخرى.
خطا الشرطي خطوات ثقيلة وأحاط القفص والرجل القابع بين أركانه بنظرات جعل منها أن تكون دقيقة وصارمة وتعلن عن الرغبة عن وجودي.
ولكي أمد يدي نحو ما كنت فكرت فيه أو عزمت عليه، ولأشعره بأن بقائي مرتهن بقراره، فإنني قلت:
-أرجو أن تكون انتهيت من سؤالي فأنا على موعد مع صديق في السوق.
قال وهو ينفث آخر أنفاس سجارته:
-آه .. أنت ذاهب للسوق.. حسن.. إذن انصرف.
قلت في مجازفة أقل خطورة ومخاطرة:
-وهذه العلبة لك.. فأنا في طريقي لابتياع غيرها.
تناول العلبة، بشغف ومن دون تعليق، ثم وأنا أمضي خفيفاً مرحا، أضفت:
-ولا تنسَ أن تتلطف ببضع سجاير على الرجل السجين ذاك.
فيما كانت يده تناور لتفرغ عدداً أقل من السجائر للسجين، انعطفت بعيداً عن الساحة نحو فتحة السوق.
كان السوق على تفرعاته العديدة غاصاً بالناس.. حشود من البشر جاءت لتلتقي فيه على أهداف تجتمع هنا وتفترق هناك، وفي دوامة كانت النظرات المبهمة خلالها تثير الخوف والشكوك.
وعلى الرغم من كل ذلك، فلقد ابتعدت عن الشرطي، قلت، ورحت أبحث عن مكان آمن أقرأ فيه الخطوط القلقة السود التي طرزت جنب الرسالة لعلها تكون هي العنوان الذي يقودني إلى حيث يريد الرجل لرسالته أن تكون.
كانت الكتابة رديئة.. ولا شك أن الرجل استغل وجوده وحيداً في القفص المغلق، وكتب كلماته السريعة بخط مضطرب يفصح عن وعورة الطريق الذي سلكته السيارة لكي تصل إلى هذا المكان.
حسن.. قلت، خط جيد.. خط رديء.. ماذا يهم إذا كانت الرسالة ستصل، وسيقرأ مضمونها أولئك الذين تخاطبهم من هذا البعد ومن حيث لا يتوقع منهم أحد.
كنت أقول هذا، وأقول غيره، مما يتعلق بنفسي كذلك، وأنا أقطع طريقاً طويلاً، وأفكر بما سيكون موقفي بعده قياساً على نوع الناس في ذلك المكان الذي أرشدني العنوان إليه.
سيبرز لي في مثل هذا الوقت، رجل لم ينم من قيلولته سوى عشر دقائق، أو امرأة مسنة انشغلت عن قيلولتها بتنظيف أواني الطعام، أو فتاة بعمر الورد مضت تقرأ ديوان شعر رغم حرارة الجو ورغبتها في النوم. وسيقطع كل منهم طريقاً طويلاً عبر حديقة واسعة أو مماشٍ مبلطة بالرخام، وقبل أن يعرف شيئاً مما جاء بي إلى هنا ستسبقه نظراته المستفهمة وسيتساءل عن سر وجودي إذ لم أكن صديقاً ولا حتى ساعي بريد، ومن يدري ما الذي سيقوله قبل أن تمتد يده، هذا إذا امتدت، إلى بوابة الحديد.
كنت في حقيقة الأمر مستغرقاً في ما كان جسدي ونفسي ينضمان عليه، وثمة فضاء جميل عبر السكة الحديد أوقع في نفسي صدى الفضاءات الجميلة التي تحاذي المدن الحديثة إلا أن عمود الحديد الذي هبط ببطئه الثقيل أوقف حركة الناس والسيارات، وعطف رقاب الجميع نحو قطار بعيد يصوّت بصوت واهن ويتقدم بحركة بطيئة يجعلها، البعد ذاك، أشبه بحركة سلحفاة.
لم يمض وقت طويل حتى جاء القطار يتهادى على ارتجاجات متعاقبة وفي تراتب ممل، كنت كلما وجدت أن علي أن أنتظر مروره الثقيل وجدت كذلك أن يدي كانت تمتد دون وعي مني إلى زاوية جيبي تهصر الرسالة آناً بعد آن.
ومن يدري كيف تنبت الأشياء أو كيف تفز من غيبوبتها وهي في تراكمها العشوائي مما هو مزيج من غريب ومثير، حين ترادفت مع عجلات القطار عجلات كانت تتلاحق، تحت الشمس، تلاحقَ بَرقٍ مجنون وينفذ إلى الجانب الآخر من السكة الحديد ومن فجواتها اللامرئية، كلب يغامر بحياته بعد أن حاصره من الجانبين أطفال شقاة.
لقد مر القطار واختفى الكلب بعد أن ظل برهة يرقب ما جرى لـه، وانفتح الفضاء الرحب وانزاح ثقل حديدي خَيَّم على صدري زمناً لأتنفس الصعداء.
خلف الفضاء ذاك كانت المدينة نائمة تصارع في ظاهرها هجير القيلولة بحدائق كثة وأشجار عالية، وهناك من حيث لا أدري ولم أحتسب ضاعت خطواتي، فكل ما كان يلوح أمامي بدا غريباً مستغلقاً فليس أكبر من هذه المدينة، أما تفرعات شوارعها وتشابكها فأمر يوحي بأنها مصنوعة لكي تضيّع خطوات الغرباء، ولكي تكون كذلك حقاً فإنها جعلت من الصمت المطبق عالمها الذي يجب أن تعرف به في مثل هذا الوقت.
ولولا بعض الأشباح التي كانت تختطف أقداماً سراعاً نحو بيوت بعضها البعض في زيارات بدت ذات أغراض شديدة الضرورة، لقلت إن المدينة تسبح في عالم آخر غير مألوف وهو كذلك، إذ ليس ثمة من طفل يحبو تحت ظل الجدار أو آخر يقطع طريقاً نحو دكان، أو امرأة تتدثر بعباءتها اتقاء الحر، عائدة أو في طريقها إلى سوق.. وأين هو الدكان، وأين هو السوق، بل أين هم الناس؟
كنت في سري أتمنى ولا أتمنى أن أطرق بيتاً وأسأل أحداً عن البيت على الرقم الذي بين يدي، فكنت كلما هممت احجمت وكلما تراجعت تمنيت لو تقدمت لأجد في النهاية تبريراً يمنيني بالتزام الصبر ويشجعني على المضي قدماً في تنفيذ مهمتي بالصمت نفسه الذي يسود المدينة الآن.
كانت رغبتي، كلما اشتد تخبطي في الطريق، تشتد هي الأخرى في معرفة ما تحمله الرسالة من أخبار تنبأت بسوئها منذ استعدت نظرات الرجل التي تميزت حال استلام الرسالة بقنوط حزين، إذ ما الذي يمكن لرسالة من رجل له وضع الرجل هذا، أن تحمل غير أخبار محزنة يتوخى إبلاغها ذويه، ليكفوا عن عمل صار غير ذي جدوى وليركنوا بعد ذلك إلى سلام لا بد منه؟ ثم ما الذي سيكون عليه موقفي لو أنها كذلك إلى الحد الذي لا يحسن أن يبلغها إلاّ رجل مسؤول مكلف بعمل مثل هذا وعلى شرط وظيفي غير الذي أنا عليه؟
وإزاء ما كان يضيّق الخناق علي رجوت أن تحمل الرسالة أخباراً سارة تقول مثلاً: أخبركم.. لقد انتقلت إلى مكان أفضل، وأتوقع زيارتكم القادمة على عنواني الجديد أدناه، سلامي لوالدي ووالدتي وقبلوا عيون أخواني الصغار، ثم يحاول أن يقول شيئاً في عبارة مقطوعة يلمح فيها إلى شعوره إزاء حبيبته كأن يقول وسلامي وأشواقي الخاصة إلى..
أو يقول: غداً سيفرج عني.. أعيدوا ترتيب غرفتي وانفضوا التراب من على كتبي ودفاتري، وقبلوا قبل يوم واحد من قبلاتي عيون أخواتي، ثم لا يتحرج أن يضيف ويقول، وقبلوا من بعد عيني سهاد حبيبتي.
كان الرجل شاباً، لايزال في عنفوان عمره. ولولا نظرات اليأس الحادة التي تنبعث من عينيه والشحوب الذي صبغ وجهه ويديه، لقلت إنه في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره.. تماماً كعمري أنا هذا الغريب الذي يحمل رسالته ويبحث عن داره.
وراودتني الشكوك كرة أخرى، إذ هل يعقل أن تحمل الرسالة أخباراً طيبة ويسعى صاحبها إلى إبلاغها بهذا المسعى؟ أما كان يمكن أن يكلف الشرطي ذاته للقيام بالعمل هذا في أية ساعة يشاء من هذا اليوم أو من غيره، ثم لماذا اليد مختلجة على ورقتها والترقب القلق لكل حركة، والحذر الكامن خلف العينين الحزينتين؟ وأخيراً ما حاجتك أنت لأن تكون نذير سوء؟
على هذا وذاك مما كان يحتدم في داخلي، نهضت في نفسي رغبة حادة في أن أفتح الرسالة وأقرأ محتواها، وعلى هذا قلت، يتحدد موقفي فإما أن أسلمها لأصحابها لأبث في نفوسهم فرحاً وسعادة وإما لا.
وانثنيت عن مواصلة التفكير بمثل هذا الاتجاه، فالرسالة لا تعدو أن تكون أمانة علي أن أسلمها لأصحابها من دون تدخل مني تفرضه علي عواطفي وهي لأنها كذلك فإن من غير اللائق فتحها وقراءة كلماتها والاطلاع على أسرارها.. لقد قمت بعمل أرضى غرورك فنذرت له نفسك منذ لحظة اشتباك الأصابع عبر منافذ الحديد، كما لو على عهد لا مندوحة من الإيفاء به.. نعم، لم يكن لقاء الأصابع ذاك لقاءً عابراً، إنما كان اشتباكاً منفعلاً، كانت أصابعك فيه تتحرك على نداء سري عات كانت موجاته تتناهض كل لحظة حتى بعد أن حلت الرسالة في مكانها الأمين.
ولا أدري عبر كل ما كان يموج في داخلي إن كنت راوحت في نقطة كانت عند أول الشارع، أم كنت قطعت شوارع وأزقة وحارات حتى وصلت إلى هذا المكان.
عموماً لقد اكتشفت أنني أقف عند أول الشارع البعيد بعداً نسبياً عن سلسلة الدور التي تنتمي إليها تلك الدار، وأن تعباً يستيقظ في ساقي، وإن عروقاً من العرق الحار كانت تسيل من قمة رأسي حتى قدمي. كانت أرقام الدور تتهاوى بطيئة تحت نظري، وكان يخيل إلي أن أحداً محدداً ينتظر قدومي ليشد على يدي ويبارك عملي ثم يطلب إلي الدخول إلى الدار يحميني من حر الشارع، وهناك يناولني كأساً من ماء بارد ثم يدعوني قبل أن يفتح الرسالة إلى أن أقص عليه كيف حصلت عليها، لأغادر الدار مثلما دخلتها تاركاً كل شيء لمنطقه الذي لن يكون لي به دخل بعد ذاك.
نعم.. ها هي الأرقام تتعاقب رقماً بعد رقم والبيوت تتوالى بيتاً بعد بيت، حديقة بعد حديقة، وباباً بعد باب، على شارع ممتد لا ينتهي إلا ليغوص في غابة نخيل تُقاطع السكة في طرفها أقصى المدينة وتنتهي عند الجانب الشرقي منها بعد أن زاحمها فوق الشارع الذي يحاذي خاصرتها جسرٌ حجري حديث.
ثم ها هو الرقم المطلوب، الرقم الذي بدا أكبر الأرقام جميعاً وأوضحها وأكثرها تشوشاً كذلك.. كان الرقم يبرز ثم يخفت وعلى ضوء لم أكن أعرف إن كان ينطلق أو يرتد.. وها هي بوابة حديد مشبكة تشابه القفص الحديد، الذي اختفى وراءه الرجل السجين، تفضل البيت عن الشارع الذي لا يلوح عليه الآن سوى رجل مضطرب الفكر مبلبل البال، وبضعة عصافير تركت حديقتها الفائضة بالماء، وركنت إلى أسفل الجدار تلتقط ما راح ينجو بنفسه من الغرق، من حشرات أو دويبات..
عند الباب الحديد ذاك، وعبر بصر غائم لا يريد إلا أن يرى ما كانت سطرته يد مضطربة على اهتزازات قفص حديد ملحق بعربة خضراء، امتدت يدي إلى الرسالة وفتحتها..
رميت الرسالة عند أقدام الباب وأسلمت خطواتي لسرعة عجلى فيما كانت امرأة ذات رأس أشيب وعينين قلقتين، تتقدم نحو الباب لتفتحه على خطوات رجل متباعد غريب لم تعرف ما الذي كان وراءه في مثل هذا الوقت.
قبل أن تعود تغلق بابها وتفكر في طمأنة الرجل الذي تبعها، انحنت المرأة على ورقة صغيرة مدعوكة كادت تأخذ بها الريح، جذبت لأمر ما انتباهها، والتقطتها
سوت طياتها وقرأت.
(لا تقلقوا بعد الآن.. سلامي إلى الجميع)
رمت الورقة، وألقت برأسها على كتف الرجل الذي كان قد لحق بها، ومضت معه صعداً في غيبوبة البكاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق