أخبار قناة العربية

Chat With Your Friends Freely And Openly .. No Limit For Time

الأحد، 13 يونيو 2010

حنون مجيد .. قصة : الغـــريب

                                                                            الغــريب
الرائحة ذاتها.. قلت وأنا امتلئ بعطر ذلك الزقاق القديم الذي دببت عليه بخطوات سعيدة أكثر من ربع قرن، وفارقته منذ أكثر من ربع قرن.
خمسون عاماً بين حضور كامل وغياب تام، فما الذي أتى بك إلى هنا أيها الغريب؟
عيون مستوفزة تطالع وجهك، تتحرى ملامحه بتهيب واستغراب ولعلها تقول من هذا المترف الذي يشق قذارة الزقاق بعطر يفتن قلوب النساء ويثير الحسد في نفوس الرجال.
الرائحة ذاتها.. العطر ذاته، الساقية الضيقة التي تشق الشارع المنحدر قليلاً.. مياهها الآسنة وضفافها الملوثة أبداً ببقايا طعام فقير وعبث أطفال وما تخلفه أقدام وراءها في رحلة الصباح وعودة المساء.
حقاً.. ما الذي قادني إلى هذا الزقاق الذي نام في ذاكرتي طويلاً واستيقظ فجأة، فانعطفت نحوه منقاداً أبحث عن نفسي فيه، وأفتش عن خطواتي الضائعة على حفافيه، بل أدقق في اللحظة التي وُلدَ فيها أول هواي؟
سليمة: أيتها الغزال الذي مر في الغابة سريعاً ولم يترك لصياده سوى صدى رميته الموؤدة الأولى، هل صحيح أن ما يحدث للمرء أول وهلة أصدق ما يمر عليه على مدى العمر كله؟ وأين أنتِ من هذا كله وأنا أقف قبالة البيت الذي احتوى جسدك الجميل وسرب لأسماعي صدى ضحكاتك الثرة، فأرى وجوهاً مغبرة نثر عليها الزمن رماده الثقيل، تحدق في وجهي المتطفل وتنفر منه أو تزور عنه، ومن يصدق إنني الرجل الذي سكن الجانب الآخر من المدينة وفي أقصى نقطة فيه، أقف الآن تحت تفاصيل البيوت القديمة أبحث كالمأخوذ في خفايا طابوقها المهترئ عن رسالة مغفلة من الأسماء كنت تخبئينها لي هناك فأقول محزوناً، تلك براءة مضت وذلك زمن ولّى.
البيوت القديمة قدمت وتآكلت.. وجوانبها انتفخت أو مالت.. وسوى دارين في أول الزقاق رممتا وطليت واجهتاهما، وكتب على الأولى بخط عريض ركيك (الملك لله) والثانية (الدار للبيع) لقلت إن المحلة آيلة إلى خراب لا علاج له. وحتى هاتان الداران لم يكن يلوح عليهما إلا ما يلوح على عجوزين قميئتين صبغتا وجهيهما بأصباغ زائفة ورتوش.. ويا أنتِ يا سليمة كأنك وسط هذا الخراب ما زلت صبية تخطرين بثوب أخضر مهفهف وضفائر سود.
وما لهذا الخيال الذي يضطرب الآن على أعصاب تتهاوى على أصوات النساء تنداح وراء الرجال والأطفال، فلا تملك إلا أن تجري وراء تيار عاتٍ فتنعطف بصاحبها نحو بيت النشأة الأولى وإن كان يقع في زقاق فرعي قصير ومسدود!
الوقت عصراً وأجمل الأوقات هنا العصر.. وامرأة عجوز خرجت منه وجعلت جلستها أمامه وأعطت ظهرها لحائط منتفخ منه.. المرأة تتطلع فيّ هي الأخرى .. غريب مرة أخرى والأغرب أنه يدخل طريقاً مسدوداً لم يكن طرقه من قبل ولا يعرف أحداً فيه ولا يعرفه فيه أحد أواه.. متى يعرف الناس حقائق الناس؟
قلت لأسلم عليها وأختلق موضوعاً للحديث معها فلا يزال الناس لا يأكلون الناس، وحتى لو حدث هذا فمن سأكون سوى شهيد العواطف النبيلة والنوايا الصادقة؟
-مساء الخير
هبّت محيية.. تماماً مثل أمي تلك المرأة القديمة التي تحب ولا تكره وتقابل الآخرين بعواطف الأمهات.. وقبل أن تجيب مساء الخير كانت قد تقدمت قليلاً مخلفة بعض ثلم حجرية صغيرة تساقطت تحت أذيالها، ثم صمتت بانتظار كلام آخر.
وخشية أن ينتاب قلب المرأة ما ينتاب قلب المرء من رجل يظهر فجأة ولا يشكل مظهره ألفة مباشرة أو سريعة بادرتها:
-أهذه الدار للبيع؟
التفتت المرأة نحو الدور المجاورة ثم حين لم تجد ما ينبئ عن دار معروضة للبيع عادت وعلقت على وجهي نظراً طيباً سمحاً وقالت:
-أي دار تقصد؟
-هذه الدار التي نقف أمامها.. داركم أقصد أو أية دار أخرى.
قالت:
-آه- كلا
وخلتها ضحكت ضحكة خفيفة، وعلى الباب القديم الذي ظل محتفظاً بقامته القصيرة ولونه القهوائي المعتم اشتبكت رغباتي.. فخلف الباب القزم هذا تكمن أجمل مخلفات عمري وفي حفرة من حفر حيطانه الداخلية الكثيرة أخفيت عن أهلي –أمي وأخي الأكبر- في ورقة صغيرة مطبوعة أسمى أسراري وأقربها إلى نفسي.. ترى أما زالت الحفرة تلك تحتفظ بتلك الوريقة التي كنت اكتسبت فيها اسماً مضافاً وهوية جديدة؟ والغرف الفوق والغرف التحت.. والسرداب البارد الذي اندفنت في قاعه المظلم مكتبة أدبية ظن الأخ أنها تؤدي إلى السجن أما زالت موجودة كما كانت في السابق من دون أن يطرأ عليها تغيير ما؟ ورائحة البيت.. تلك الرائحة المضفورة من طابوق عتيق توالت على الحفر فيه سنون وخشب قديم دَبّت عليه في سواق مسقوفة دودة بيضاء، أما زالت هي ذاتها تنتشر في الأرجاء كل صباح ومساء؟
يا امرأة تشبه أمي، لا تزال واقفة كما لو أنها تستلهم مني رائحة ابن مفقود افرجي الباب قليلاً وقولي تفضل أو هات لي قدح ماء لأطل من فرجة الباب، بل لارسل روحي تفتش كالطير الهائم عن سر هنا وسرٍ هناك.
وحقاً كنت أشعر بالعطش، ولربما بدأ هذا العطش ينتابني الآن، وامرأة مثل هذه لا تبخل بقدح ماء ولا تتحرج إن سَقَت رجلاً غريباً هو في كل الأحوال في عمر الأبناء.
-ماء عذب.. سلمت يداك.
كان جزء الحائط الذي نفذ إليه نظري في المجال الذي أتاحته فرجة الباب.. ذاته لم يطرأ عليه تغيير كبير باستثناء ما جرى للنقوش الزمنية التي تهرأت وكثرت عليه، وعدا هذا فقد كان يلوح هناك على جزء آخر من الحائط شيء بلون أحمر لم أتبينه جيداً، ربما كان بساطاً صوفياً رقيقاً أو شيئاً من هذا القبيل أقيم على الحائط ستارةً أو غطاءً، ولم أكن أرى سوى حافته الجانبية وجزء يسير منه كلما مال رأسي أثناء الحديث. ولولا أن المرأة كانت لوت الستارة الداخلية التي تسدل عادة خلف الباب مباشرة وعلقتها على مسمار أو شيء آخر لانعدمت رؤيتي ولما نفذت إلى داخل الدار.
كان الداخل يستهويني بل إنه كان يدعوني، فهناك نمت وهناك استرخيت وفي الأعالي قرأت ومن زاوية سرية أطللت وراقبت وأحببت، ويبدو، حقيقة، أنّ لا شيء داخل البيت قد تغير كثيراً، فحتى الضوء الكابي الذي سبق أن خبا عليه جراء القراءة جزء من نظري.. نفسه.. درجة الإنارة نفسها ولربما كانت الظلال المنبثة في الزوايا والحفر والأخاديد نفسها.
ردّت المرأة في شيء من عناء وقد طردت عن أنفها ذبابة كبيرة استقرت عليه.
-عافية.
وكأنها كانت تريد أن تضيف شيئاً حينما تلجلج في داخلها صوت ما.. لربما كانت تريد أن تقول وما يدعوك للسؤال عن دار للبيع هنا وأنت الذي يتراءى عليك ترف من نوع ما؟ ولكنني أعرف وقد يكون ذلك تصوراً قديماً لا غير، إن الناس الذين يعيشون هنا من أجناس مختلفة وفيهم من هو أفضل ملبساً وصحة مني، فإذن ثمة كلام آخر ينطوي عليه صدرها قبل أن يختلج به لسانها.. والبسطاء على سماحتهم يستسهلون قول أي شيء، إذن لأترك المرأة تلف أوراقها على ثمرتها ما دامت فجة وأغادر الزقاق. ويظهر أن المرأة هذه كانت حقاً تجد صعوبة فيما كانت تود قوله.
فقد صدر صوتها مرتبكاً يعانق روحي المضطربة على أكثر من سؤال:
-تكلم .. أتسأل عن أحدٍ ما؟
كانت ظلال العصر قد كبرت وشاخت وكانت منذ حين قد نشرت أجنحتها على حنايا الطريق إشارة استجاب لها أول من استجاب أصحاب الدكاكين العاطلة لإغلاق دكاكينهم، والنساء للجلوس أمام بيوتهن، والرجال للهرب من بيوت ضيقة نحو المقاهي الصغيرة التي نما عددها عند مبتدأ الزقاق، وباعة جوّالون يعودون إلى بيوتهم وفي أذهانهم نسب هلامية من خسارةٍ أو ربح.
-نعم.. تكلم.. قل أي شيء.
تبددت الظلال.. انتشرت شمس صباحية ربيعية غمرت الزقاق بأشعة ذهبية كانت سليمة تتأود تحت فيضها بترف صباها الثائر وعطرها اللذيذ حرة من دون رقيب أو عذول، تلّوح لي بنظرات سود وتعض على إصبع يدها بأسنان بيض.
-نعم يا والدة- إن لم يكن في هذا من خطر علي!
-سَلْ وقل ما تريد.
قلت كمن يلقي بشيء يكوي جوانحه!
-سليمة وأهلها.. كانوا يسكنون البيت ذاك عند منتصف الطريق.
وهي تعرف لا بد –سليمة.. لا أحد لا يعرف سليمة ذات الوجه المدور والساقين المكتنزتين، التي ما أن يراها أحد إلا ويحفظ صورتها ويحتفظ بذكرى عطرها.
أجابت المرأة:
-نعم وصمتت..
كنت أود أن أقول لها: أين هي، وماذا حلّ بها، وعلى أية عجلة مرتبكة يدور بها الزمن الآن؟ إنما قبل أن تنعطف من تلقاء نفسها وتدخل الدار، استجابةً لنداء من هناك، فاستأذنت بحياء وخلفت سؤالي حائراً يترنح على صمت مأخوذ بحيرة الجواب، فتيقنت وقد ألمّ بصدري ألم ما، إن شيئاً لا بد حدث لسليمة مثلما حدث لآخرين، ولعله –يا لبؤس عقلي المشوه- كان أكبر من نفسها الغضّة الصغيرة، تركها تجوب الطرقات مثل تلك المرة ذات الجمال المشوه التي تقطع المسافات وتقول ما لا يقال، والتي كلما صادفتها ذكرتني بها، من يدري؟ قلت وأنا أتراجع خطوة بعد خطوة بعد أن انقطع الحديث وهو في أولـه وانغلق الباب، ما الذي يحدث لشخص فارقته خمساً وعشرين سنة حفلت بما حفلت به هذه السنوان؟
وعلى أذيال خطواتي المرتبكة عادت ظلال العصر فانتشرت من جديد.. لفت بدقائقها السمر آخر بقايا الشمس التي حاولت أن تتشبث بمواقع لها عند أعالي الجدران..
من هناك.. من حديث الدكاكين التي أغلقت والمقاهي التي انتشرت.. النساء اللواتي تربعن أمام بيوتهن والجامع المزار الذي انحدر تحت مستوى الرصيف ببابه الملطخ المغلق.. الجدران التي تآكلت أو مالت أو تورمت.. الساقية التي اكتظت ببقايا طعام ووحل وطين انبعثت الرائحة عينها.. تفشت كما لو على أجنحة ملائكة.. رائحة لها دوي خاص تضج بدقائق الزمن والطابوق وأصداء ضحكات سليمة التي تذكرني بها- لا أدري لماذا -المرأة ذات الجمال الذابل تلك.
على خطواتي المبعثرة التي كانت تلجم رغبتي في الخروج من الزقاق، كان جسدي يتهاوى.. تطوح به أهوية ورياح كانت تهب من كل نافذة وباب، حتى إذا أوشكت أن أخلف ورائي جسد الزقاق، هبط كل شيء في عتمة مفاجئة كان الناس عندها يقولون: افسحوا الطريق للرجل الغريب ذاك أو قودوه إلى حيث يريد.
وكانت ثمة يد حانية بيد الرجل ذاك تجنبه حفرة في وسط الطريق وواحدة أو اثنتين على جانبيه، كان المساء الثقيل يخفيهما عن أعين الغرباء.

ليست هناك تعليقات: