القــــــــرين .. قصة قصيرة
سرح يده فوق رؤوسنا، ثم عاد وعطفها نحوه فكادت تلامس صورة متباينة الظلال، عكستها مرآة عريقة بحجم مرايا الحلاقين توسطت جدار غرفته التي زينت بلوحات ورسوم.
من خلال شباك انزاح طرف من ستارته، كان ضوء ما برح ينساب نحونا فاتراً ممزوجاً برائحة قدم ما كانت تبثها مع ظلامها الزوايا والأركان.
كنا قد اجتمعنا على وعد منه، مأخوذين بصورته الوسيمة التي وشحّتها ألوان عميقة متنافرة أكسبتها مظاهر صور مزاولي السحر أو أولئك الرجال الذين تنطوي صدورهم على تجارب من تلك التي لها وقع عميق على النفوس.
كان الهدوء طاغياً لـه طعم حريف تزداد كثافته مع مرور اللحظات الصماء التي كنا ننوء بتضاعيف وقعها المترسب في صدورنا، بيد أنه لكي يفي بوعده ويقطع وحشة عزلتنا، انحدر صوته إلينا بِرَنّةٍ فيها من الأسى بقدر ما فيها من الفخر. بل لقد لمسنا فيه ذلك الصدى الذي يوشح الصوت حينما يشير إلى ماضٍ مختلط لكنه في الوقت نفسه ذو مجد وجمال.
-هو ذا القرين.
قال ذلك ولما تزل يده المنطوية تشير إلى الصورة التي توسطت الآن مستطيل المرآة. تطلع فينا، صبّ سيل نظرات مترجحة على عيوننا وأردف:
-أنا وهو صديقان.
اختلج صوته على ما يشبه الذكرى القديمة وأضاف بتوكيد ثقيل:
-صديقان عدوان.
قطع حديثه لحظة انصرف فيها إلى متابعة وجوهنا المترنحة بين صورته والمرآة، ثم ما لبث أن اخترق صمتنا إذ قال:
-كل منا يعترض الآخر ويغريه.. نختلف ونتفق. وإذا كان اتفاقنا نادراً فإن اختلافنا شاسع وبعيد.. يختفي لحظة ثم ما يلبث أن يطل عليّ ويلوّح لي.. يتبعني كظلي ويستبق خطواتي.. يعبس بوجهي ويبتسم لي.. يمسك بيدي ولا يريد أن يكفّ عنيّ.. حلو ومر.. مر وحلو..هكذا نتبادل الأدوار، لكن حلوه على لذاذته، صعب عسير في أغلب الأحوال.
أشاح بوجهه عنا.. أنعم النظر في الصورة قبالته وواصل:
-قطعنا شوارع منوّرة وأزقة مظلمة.. متاهات وساحات، حدائق ومتنزهات.. غنينا معاً ورقصنا معاً.. استولى علينا شعور جارف بأن الحياة لنا، لوحدتنا واتفاقنا، لانسجامنا وسعادتنا، لكن اللحظات اللحظات ما أن تنصرم حتى نتبين كم كنا على شقاق وكم كنا على وهم، وإننا منذ لحظة رقصنا وتوحدنا كنا نفترق، وأن أيدينا التي شدّت على لقاء قادم كانت تعلن في سر مفضوح عن وداع أو رغبة في وداع
مرة أخرى انتبه إلينا.. أجال نظراته في وجوهنا يقرأ ما يعتمل فيها أو يتلوّن عليها:
-يحيرني أمره.. رغباته الكثيرة وأولاعه اللامتناهية.. طلباته ونواهيه. آراؤه ونوازعه.. ولعلي حذّرته أكثر مما حذّرت صديقاً، وحذرته أكثر مما حذرت عدواً.
وددت أن تفترق بنا السبل وتختلف الطرق.. أن يرحل غرباً وأرحل شرقاً، شمالاً وجنوباً، أبعد وأقصى، لكن ذلك لم يكن كما يبدو إلا من قبيل الأماني والأحلام.
استعاد في لحظة هدوء أنفاساً أفعمها الاعتمال، ثم تحرك نحو كرسي ركن قرب زاوية من المرآة وتابع:
-عند بداية الشوط كان الاتفاق يسودنا.. لعبنا معاً عند حافة بستان، ثم دخلناه من دون عناء وحتى توغلنا فيه اعترتنا دهشة اللهو والعبث في مكان ليس لنا وقد يحرسه حراس، ثم خامرنا الشعور بالذنب، فعدنا أدراجنا حذرين أن يرى أحد ما ناءت به أيدينا من فاكهة وأثمار.. عبثنا في الساحات تحت وقع المطر وخضنا في الوحل، سبحنا في النهر، واقتنينا ما لم نملك.. ارتحلنا في خيالات فَجّة وبريئة غفت على شاطئ طفولة لم تعرف بعد ما الممنوع وما المسموح. غضضنا الطرف معاً وصدمتنا الحقيقة سوية. ولم نفترق.. كدنا نكون كلاً واحداً متجانساً لا يعرف النعم في موقف اللا، ولا اللا في موقف النعم، حتى إذا شب ودبتّ في عروقه حرارة ما، جعل يرفع إصبعاً نزقة تؤشر هنا وتشير إلى هناك، تريد هذا وترفض ذاك.. تركت الأمر أول لحظة.. حسبته نزوة عابرة أو شطحات شباب فائر أو رجولة مختَلَقة. كان ذلك مع أميرة بادئ ذي بدء. فلقد أطلعنا صديق على خبايا شباكه العالي قبالة شباكها. ولكي يخفي نوازعه نحوها ويشبع تطلعاته إليها، غطى زجاج شباكه بصبغ أزرق ترك فيه ثقباً بحجم ذبابة كان كافياً لأن يضع وراءه بؤبؤ عينه ليرى أميرة تخطر في عزلتها،تضع ساقاً فوق ساق، تشرب شايها أو قهوتها بتؤدة وهدوء، تضطجع على سريرها تقرأ طويلاً قبل أن تغلق الضوء وتنام. اندفعنا نحو غرفته. الصديق أولاً ثم هو ثم أنا.. كان الصديق ذاك حيادياً بارداً ولكن تدفعه رغبته النرجسية لإطلاعنا على متعته التي لم نكن نعرف عنها شيئاً لنحسده أو لنغبطه عليها. كانت أميرة مثار هواجسنا، بل حب ورغبة أهل الزقاق عامة. وإذا كان اندفاعنا هو وأنا قوياً، بل مثيراً، فلقد كانت خطواته تسبق خطواتي، ورغبته تفوق رغبتي حتى وجدته يقفز الدرجات الأخيرة للسلم الصاعد إلى الغرفة ليكون أول الظافرين بمنفذ بحجم ذبابة يعبر فضاء الزقاق المعتم نحو شباكها المشرع أبداً والمنّور بوجهها وبمصباح يتأرجح من سقف غرفتها فوق رأسها. كانت مضطجعة على سريرها تقرأ في كتاب في هدوء واسترسال ناعمين، وفي ليل لم يكن قطع من مسيرته الطويلة سوى ساعتين أو ثلاث.. حلم يتمدد على سرير مشرشف، وجمال مبحر في ثنايا إحسان أو نزار- هكذا حسبنا وقتذاك- ومن يدري ما الذي كان يدور في ذهنها وهناك عبر زقاق ضيق معتم، ومن خلال ثقب في شباك مقابل يتناوب التلصص عليها اثنان لم تسمع عنهما سوى، أن سمعت، أنهما من شبان الزقاق، وما أكثرهم، يتلصصون علناً على ساقيها وهما تتناوبان، برفيف الحرير، على قطع الطريق نحو مدرستها، أو نحو مواعيد بعيدة من الزقاق في ارتحالات جريئة لا يعرف أحد سرها وإن لعبت بها الهواجس والظنون؟ كانت أميرة ذات الجمال الباذخ الفريد بطولها الفارع وامتلاء ساقيها وشعرها المنساب كشلال من حرير، ونظرتها المترفعة الساحرة، أول من وقف في طريقنا، وأول من اعترض وحدتنا وصفاءنا، فأما أن نستمر في التلصص على ساقيها تنفرجان وتنطويان، وعلى جسدها الشامخ يملأ سريرها ثراءً وبذخاً أو الكفّ عن ذلك تماماً، إذ ليس كل ما يثير الرغبة والخيال وحتى الأماني صحيحاً ومقبولاً دائماً، ومن هنا كان اشتباكنا وافتراقنا. فلقد ظل يدفعني نحو شباكها وأدفعه نحو حبها، حتى آلت إلى مستحيل وظلت كذلك وغابت في دروب الحياة. وإذا كان ثمة من نقط سود وبيض رصعت جبين طفولتنا أو صبانا، فلقد كانت تلك النقاط، إذ كثر الشدّ والجذب بيني وبينه حتى كاد ينقطع الخيط الرابط بيننا، وليته انقطع منذ ذلك الحين. على أننا لكثرة ما استعصى أحدنا على الآخر بتنا نكره بعضنا البعض ويتمنى موته، لينفرد بنفسه لنفسه ويقرر حياته بذاته. ولكن أنّى يتحقق لأي منا ذلك، وهي شعرة، كما قال مرة، ولكن لكي تقطعها عليك أن تصيح بأعلى صوتك: (ها أنذا، انفردت واستويت قائماً وحيداً واحداً، لا صنو لي ولا مثل، لا غريم ولا قرين) وإذ لابد مني ومنك، فبذا تكون كمن يضرب رأسه في جدار.
-وما السبيل- رددت عليه، ثم قلت-إذن لكي تحقق كل ما تريد عليك أن تخترق قوانين الحياة وسبل الطبيعة، وتقيم لنفسك أقانيم خاصة ينبذك عليها ناس ويسخر منك ناس حتى قد يصل بهم الأمر إلى أن يطاردوك أو يقتلوك. أنت صنو مقيت، بدائي، حشوي، غريزي، بهيمي.
-وأنت- رد بصوت ذي جرس ناعم رخيم-نحيل نحيف، انتقائي، مخي، عظمي، متردد، محتسب، جبان. وضحك ضحكاً داعراً وعقد أصابعه على أصابعي وجرني عنوة إلى حديقة خاصة أطلق عليها حديقة العشاق وهو يقول: أليس جميلاً أن نكون اثنين مختلفين ولكن متآلفين بدل أن نكون نصفاً ندعيّه واحداً سرعان ما يفتقد نصفه الآخر ويهفو إليه؟
وهالني زهو الحديقة، واتساق تكوينها ونظافة مسالكها، بل أذهلني جمال روادها وروعة أُجرائها وشذا عبيرها، حتى لكأنها عالم من خيال. كان المطر يهمي والعشاق فيها يتسامرون ويتعانقون، مبللين بالمطر، سُعداء مغرمين لا يعرفون سوى العشق وحالات الغرام، تؤطرهم أصداء موسيقية خافتة تنطلق من حيث لا يعرف أحد، وكما لو أنها تتفجر من أرض قصية، تنساب بفواصل هادئة رقيقة متتابعة، يتلون فيها الإيقاع نزفاً حيياً معاً يداعب نعومتها ويشاكس رتابتها، ينفرد فيها صوت ينبثق كل فينة بطبقة منفردة لها شبه بتأوهات نفس عظيمة ضاقت بسعادتها ونفرت من رتابتها، حتى انسقت خلف ما كان يتراءى لي حلماً غريباً يداعب أقصى خفايا النفس، يغويها بالأمل ويعذّبها باليأس، أيها الماكر اللعوب، قلت، تقودني إلى هذه الحديقة التي تنطوي فيها الذراع على الذراع والساق على الساق، ويتذاوب عشاقها في عناق طويل كما لو أنهم تماثيل رخام تنتظر رحمة الآلهة لتفك عنها لعنة العناق؟ من أنت لكي لا تعرف نفسك وتقدر قواك؟ ولكن لا، فأنت مغوّي مغرور، وإلا فكيف تدخل بنا هذه الغابة التي جلّ روادها عاشق ومعشوق ومجنونة ومجنون؟ ثم ألا تقدر الزمن الذي مرر أصابعه على وجهك فمحا نضارة عينيك ووسامة وجهك.. ألا تعي دورة الحياة؟ إن نفسك لفوّارة ودخائلك لنزّاعة مازالت تدغدغ لسانك وتحرك قلبك وتعبث بطرفك فهذه وتلك، ثم تتهمني بالتقاعس والخمول وتقمع رغبتي في معانقة ما أود وما أريد.
توقف الرجل عن الكلام.. صَمَتَ صمت الأموات ثم كمن يترك حديثه للآخرين ترك رؤوسنا تحلق في مرآة تخترق فضاءها الموحش صورة رجل ورسوم جدار.
ومن حيث لا يدري أحد عاد إلينا بصوت ثقيل من دون أن يشير ولو إشارة عابرة إلى الزمن الصامت الذي تركنا معلقين فيه قال:
-أقمعك تقول، أجاب في سخرية ماجنة، ولم تقم بعمل خالد أو فعل مأثور.. لم تقل علناً لا، ولم تعبّر ولو بصدق كاذب أو بعض صدق عن حقيقة كنهك وماذا تريد.. من يعرفك.. من أنت، ما هي هويتك وعلى أي شاطئ رست سفنك؟ أنا؟ أنا السبب؟ يدي بيدك فلماذا لم تكن هي الأقوى لتأخذ بي نحو شاطئك أو نحو ما كنت تريد لي أن أكون؟ نعم. أنا معروف.. نزوعي، ملذاتي، حسي، جسدي، رغوب، نهم، ملتاع، لا أشبع ولا أرتوي، ولكن ألم تكن أنت نفسك آمراً قاهراً رغوباً ولم تكن مرة سواك؟ أشهد أنني قمعت فيك متطلباتك، وأشهد أنني كنت الأقوى، والأعنف والأكثر رغبة وتطلعاً ونزوعاً، ولكن كيف تأتى لي ذلك إن لم تكن ثمة أسباب أنت نفسك من بينها؟ لقد اضطهدتك نعم وكلا، فلقد تضافرت معي عليك وسلكت بمعيتي دروبي وزواياي.. طامنت رغباتي وعرفت شياطيني، ثم كنت في اللحظة الأخيرة تجفو وتتردد لتتهمني بالفسق وبالفجور. نعم أنا جائع مثلما أنت إنما الفرق في أنني أعلن وأصرخ وأصرّح وأحاول وأتقدم، بينما أنت صامت معذب متردد كلما أقدمت ترددت وكلما بنيت هدمت. لم تعرف الحب الحقيقي يوماً، وألذ ما في الحياة الحب، ولكن كانت ظنونك وكانت مخاوفك، وما كنت تدعيه ولم تزل، الحياء الجميل والموقف العام، وليس الأمر بالمخجل ولا بالمقرف ولا بالغريب.. ما هو صوتك، وكل ما فعلته كان معي، معي وحدي..؟ لا صوت في الفضاء، لا صوت في السوق، لا صوت في المقهى، لا صوت في الشارع، لا صوت من خلف النوافذ أو من وراء الجدران أو من فوق السطوح. والذي تفعله أو تقدم عليه ولا تحجم عنه مما أنت مؤمن به هو بحجم ما أفعله وبمقدار ما أحاول الإقدام عليه وتردني عنه، كلاهما بمقدار واحد ومثل كفتي ميزان.. وكلاهما يحقق في تحصيل الحاصل اللذة المنشودة والمتعة السامية، وسيّان أن تكون هذه حسيّة كما تصف وتلك روحية كما تدّعي ولا فرق. ودعني اذكرك بقولة ذلك المحارب الغريب في حانة بلد محتل (إننا من أجل هذا نحارب لا من أجل كعكة ماما) مشيراً إلى لوحة كبيرة لامرأة راقصة ترقص تحتها على موسيقى صاخبة راقصة أخرى. أترى؟ أما الزمن فإنه طوع يديك بل إنه أنت ولا شيء سوى ذلك.
رفع وجهه عن وجوهنا.. استدار نحو المرآة.. سلط نظرة عميقة استقرت على الصورة التي أحاطتها ظلال ما فتبدت كما لو أنها تسكن في بعد قصي، ثم ما لبث أن عطف رقبته نحونا:
-حقاً لقد أوغر قلبي هذا المتحذلق الدجال وأدخلني في متاهة الأسئلة المفرغة. قلت، وقد قطعنا شوطاً في متاهات الحديقة الغريبة حتى كدنا نتوه في مسالكها المتشعبة ودروبها المكتظة، وكان المطر لايزال يرش العشاق رشاً رؤوفاً، انتعشت عليه النفوس فساد الحديقة جو ملائكي كانت الأجساد المترفة تتخاطف فيه تخاطف الملائكة في حفل فردوسي، هيا لنخرج قلت. قال، أبهذه السرعة؟ كنت أحلم أن أدخل بك الممرات السرية والأنفاق الشفافة ساحات الأزهار وبيوت العطور، بل كنت أود أن أقودك إلى معتزلات العشاق، فهناك كنت سترى ما لم تر عيناك.
وأخذت بيده سريعاً نحو دار الحكمة، وهي بناية شامخة مهيبة يقف قبالة الحديقة ذاتها في مواجهة سافرة فكادت قواه تخور وهو يرى طرقاتها ومكتباتها وحركة الناس فيها. وقصدت به مكتبة مغلقة وضعت بيده مفتاح بابها.. هناك وهو يقرأ بعض أسطر مما زخر به كتاب قديم غلافه رِق متآكل لكن حروفه مطرزة بماء الذهب سمعته، يناجي نفسه ويقول، على هذا يفور الماء وتتصدع أوحش الجبال وتحني رؤوسها سنابل الحقول. كلا. إنه السحر. لكن الشيطان سرعان ما أغلق الكتاب وتشبث بكتفي وقال كالمطارد المأخوذ هيا لنخرج.. أنقذني مما أنت فيه، فقلت أنا الآخر وبهذه السرعة، كنت أبتغي أن أعرفك على رواد مكتبة أخرى. أولئك لا تسمع منهم سوى الهمس ورفيف أعينهم على الكتاب رفيف الفراشات على النار، فقال مكرراً سخريته الماجنة وثقته المطلقة، إنني لأخشى عليك فالحقيقة التي تبحث عنها هنا إنما هي هناك كذلك. أجل هما شيئان لا ثالث لهما، وغالباً ما كانت الأشياء اثنين متضادين، لكنهما يشكلان في النهاية وحدة الأشياء، وحدة الكون ووحدة الوجود، نور وظلام، خير وشر، حب وبغض، حياة وموت، قوة وضعف، سماء وأرض، جنة ونار، خالق ومخلوق، سيد وعبد، ذكر وأنثى، وأبداً لا فاصل بينهما وبدون أي منهما لم يكن ليوجد شيء اسمه الحياة.. نكوص وتقدم، إقدام وإحجام، وهكذا نحن منذ الأزل وحتى قيام الساعة، اثنان لا يفترقان، واحد لا يتكامل إلا بضدّه ونقيضه الذي فيه، أم تريد المزيد؟ قال وأردف كما لو أنه لا يريد أن يتوقف أو يكف، ملاك وشيطان، سارق ومسروق، قاتل وقتيل، راعٍ ورعية، حاكم ومحكوم، شجاع وجبان، شريف وخسيس، غاصب ومغتصب، ظالم ومظلوم. سكت لحظة وقد تفصّد العرق من جبينه حتى حسبت أنه سينهار، ولكنه كما لو على سبيل التحدي واصل كلامه، ولو أردت لسودت لك مجلدات، لكنك واهم كبير ومضلل أكبر ويدك مع يدي لا فكاك منها، وبدونها لا تمسك بشيء ولا تصفق لشيء، فامضِ وحدك إن كنت بمستطيع أو فلتطلق علي نارك، بل ليطلق كل منا ناره على الآخر فهل نستطيع؟ كلا. وحدتنا شيء أزلي لا انفصام له وهراء أن تكون واحداً متجانساً يوماً أو حتى لحظة إلا إذا تقهقرت نحو طفولة مستحيلة أو تحولت إلى كائن مسخ مسطح غريب، وأعلم أن الشيء الواحد المتجانس الصافي لا وجود له، ذلك أنك إن فكرت بذلك تكون كمن يغمض عيناً ليرى بالأخرى نصف العالم وأنصاف الحقائق والأشياء، وإن ما تراك عزفت عنه تمارسه بمفهومك الخاص الذي شرعت له وباركت فيه، لنلتقي في الآخر كل في منحاه وكل في شرعته، ولكن في وحدة واحدة ومشاركة خالصة ترفض الانفصام ولا تقبل الزيف، إنما في لذة مطلقة سواء أمسكت باليد أم أمسكت بالخيال، وعلى هذا فليس لأحد منا ميزة على الآخر أو قدرة أن يعيش بمنأى عنه، فهيا مدَّ يدك إلى يدي ولنمض معاً إلى حيثما تريد أو حيثما أشاء.. أشد فترخي، وتشد فأرخي، تغريني وأخادعك وتماطلني وأناورك، وهكذا إلى الأزل وحتى نهاية الحياة.
سكت الرجل.. تحرك بخطاً وئيدةً راسخة وفتح شباكين على جدارين يطلان على شارعين فرعيين، تناهت إلينا من خلالهما أصوات متنافرة كنا نتبين فيها ضحكاً وحزناً، وهدوءاً وضجيجاً، ثم فتل جسده نحو المرآة وتقدم متمهلاً منها حتى خلنا أنه سيدخل في عمقها البعيد، ثم إذ تبدت لنا الصورة واضحة جلية تضرب عليها أضواء الشارع وألوان الجدران، توقف عند نقطة معينة وجعل يتأملها تكاد نظرته تغوص في تلاوينها وإشعاعاتها، ثم كاد يرفع قبضة مشدودة يحطم بها جبهتها، فما لبث أن عاد إلينا بوجه يلعب عليه ذلك المرح الذي يلعب على الوجوه حين تستعيد سعادتها وقال في حبور:
-وهكذا انطوت ذراعه على ذراعي وقبل أن انعطف به ثانية إلى دار الحكمة، أغواني بالعودة إلى غابة العشاق فغلبني وغلبته.
وانسل من صفوفنا الذاهلة كما ينسل السعيد من أقران تعساء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق