أخبار قناة العربية

Chat With Your Friends Freely And Openly .. No Limit For Time

الأحد، 13 يونيو 2010

حنون مجيد .. قصة قصيرة : الصيــــــــاد

                                                                          الصَّيـــــاد
تحت ظلال سعادته القصيرة الباهرة أحس، أن أصابعه التي تحت الماء، انفرجت لتفلت منها خلسة، سمكته الفضية الكبيرة فانقطع خيط حلمه الشفيف على مرأى النهر المضطرب وأصابعه مفرودة تقبض على فراغ.
لقد رآه ينحدر مع الأسماك الهائمة في ملذاتها الساحرة ويقبض على هذه الجميلة، أكبرها التي لا يعرف أي سر فك عنها قبضته، ثم مكث يتابعها بشغف وهي تتهادى وتبتعد، وأشتات من حسرة دفينة تتموج في خاطره، لا تلبث أن تتلاشى سريعاً على أطياف نشأت تترادف بين عينيه.
أية سمكة، أي عالم، بل أي سحر، كان يتساءل ذاهلاً وهو يزيح عن عينيه غشاء غفوته القصيرة، ويتنبه لفراغ يده المنسحبة مع مهوى الضفة العالية حيث جلسته العصماء التي اختارها بعيداً عن ضوضاء الصيادين الآخرين في أماكن أخرى، وكان رمى سنارته في عمق من النهر قريباً بعض القرب، من أجمة انفردت هي الأخرى عن غيرها من أجمات.
من على مرتفعه، كان يتابع خيطه اللامع تحت وهج الشمس ويتوسل أن لا تعبث بسكونه المهزوز هبة ريح ويتغنى بمجده يوم كان وعاؤه يفيض بما يصيد، فيختار لنفسه ما يختار، ويعيد للنهر ما يعيد، ويعود إليها ضاماً صيده إلى صدره، مُلوّحاً لها بأن الرجل حين يكون عاشقاً فقد يتسع أثره على امرأة جميلة بصيد ثمين.
تحسس وعاءه، وبالغ في إدنائه إليه حتى لكأنَّ ريحاً مقبلة سوف تنهبه، وتيقظ للحركة التي انبثقت من عمق الماء وتصاعدت نحوه متناغمة مع مرونة الخيط، كانت الحركة عابثة لصغيرة لم تعرف معنى الجوع بعد، أو لكبيرة من سليقتها أن تظل تحف بالطعام في دورات قبل أن تقدم عليه.
قبل أن تتوتر أصابعه، وقد توترت نفسه، أرجأ شد خيطه وقد هدأت الحركة وتلاشت، وصار بميسوره أن يسحب أنفاساً هادئة، موقراً نفسه على أن ضبط النفس أجمل ما يجب أن يتحلى به صياد.
على أنه مع الحركة المريبة التالية، واشتداد إحساسه بأن الطعم فعل فعله وأنها أقبلت بكليتها عليه، نتر خيطه بقوة بالغة فتلألأت في الفضاء سنارة فضية منزوعة الطعم.
ألقى نظرة عتب على أصابعه، وشكَّ أن تكون فقدت إحساسها الدقيق. وألقم سنارته طعماً جديداً، وألقى بها حيث النقطة السابقة ذاتها ومضى ينتظر ما قد تجود به اللحظة القادمة، مستلهماً في الوقت ذاته استجابة يده قبل أشهر، بل قبل أيام، لحركة الخيط الرصينة حين تكون مثقلة بالصيد. تلك الحساسية المرهفة، كما لو أن نداء بينه وبين صيده، كانت ميزته المتجلية التي غالباً ما كانت مثار غبطة أمثاله من الصيادين الهواة.
قبض على خيطه بشدة وأرخى سمعه لأية ذبذبة داخل الماء، بل إنه أنشأ يطوّف بصره على المرآة الكبيرة أمامه، هائماً بمنظرها اللامع الصقيل من دون أن تهفو نفسه، للهفهفة الكاذبة التي بدأت تنسج خيوطها بعيداً عن مبتغاه.
تلك حركتها وهي تدور حول الخيط، تلامسه من قرب وبعد أو تتشمم الطعم، قال وبدا صاغراً ثم أضاف، ويا لذكاء السمكة قبل أن تخدرها وتغلق عقلها رائحة الطعام.
وطرب لفطنته التي وجدها طرية، كما لو أنها جديدة حقاً ولم يفكر بها من قبل.. إنها تحوم وتقترب الآن، وها هي رفرفة أجنحتها الزاهية قريباً من الخيط، بل ها هو فمها المُدوّر، مرتعشاً يتدانى من الطعم، متوجساً، بحاسة متوهجة، مما قد يخبئه له بين طراوته التي تكاد تذهب بها تيارات الماء.
ارتعشت تحت أنامله حركة ما، كان لرفيف الخيط فيها ملمس الصدق في الأشياء، فارتفعت على حركة يده الخاطفة سمكة صغيرة بحجم الأصبع، ظلت ترفرف في الفضاء قبل أن ينقذها من جرحها ويضعها في وعائه لتعود تسبح في نهر شديد الضيق، كلما ساحت فيه ارتطمت بشاطئه الجديد.
لقد بث هذا الصيد، على ضآلته أملاً فيه، وعمره ما كان إلا متفائلاً بصيده الأول، ولم يغامر يوماً بالاستغناء عنه مهما صغر حجمه.
وبدأ طرب ما يجتاح نفسه كلما التفت، ووجد الأصبع الفضي يغامر عبثاً للنفاذ من عالمه الصغير، مشغولاً في همٍّ خفي لا يفتأ ينبثّ كل لحظة على عينيه الصغيرتين.
ومن حيث يدري ولا يدري، عدل ببصره الذي بدأ يشيخ وتظهر عليه نقط هلامية سود، نحو الفضاء المترامي عبر النهر، حيث كل شيء يتراءى لـه على صورة الخيال الملموس.. الحقول التي لاتزال ندية تشع بخضرة أول الربيع، السكون الممتد حتى الأفق البعيد، وها هو صوتها يتردد في عمق أذنيه، اهرع للنهر ما دمت تضيق بشوارع الإسفلت وغرف الطابوق، فلعلك تصطاد هناك، بعد سنة أو سنتين، سمكة الشيخ التي أكلها القرش.
كان الوقت ضحى حينما انداحت على شفتيه ضحكة خافتة، ولكنها ترددت جلية في مدار أذنيه، فبثوبها الأزرق الفاتن المطرز بزهور دقيقة سود، كانت تعابثه منذ ساعة وتشاكس رغبته في الابتعاد عنَّ البيت والتوق إلى النهر، كلما ضاقت له نفس، إنما كلما عنَّ له النزوع إلى هناك، وقفت بوجهه وملأت أذنيه بكلمات سريعة لاعبة، سحرها اللذيذ أنها تنطلق من فمها الطلي، وعينيها الباسمتين.
وَلَذّ لـه أَن يُجسّدها في هذا المدى الواسع للفتنة والحب، وأن ينظر إليها نظرته إلى امرأة فاتنة يراها أول مرة، فحينما نبتعد، وإن بعداً نسبياً، تكون مجسّات حقيقتنا، نحن الكبار، أكثر صدقاً، قال وارتجفت أصابعه وانشدت بصورة أعنف إلى الخلف، فحلق فوق رأسه خيط مقوس مشدود ينتهي بسنارة خلت من طعم وصيد.
إذن، لقد غافلته اللعينة وانتهزت فرصة حواره وسرقت طعامها السمين، ولكن ها هو يستغفلها، كما استغفلته، بطعم آخر ستجرها إليه، لذاذة ذاك الذي مضى معها سهلاً ومضت معه سعيدة.
وضع حواسه مع خيطه، وبصره ينساب هابطاً صاعداً معه، مركزاً في الوقت عينه في النقطة التي إن لعبت، كان اللاعب فيها صيداً لا ريب فيه.
كانت أعصابه مستوفزة، وضع فيها رجاء حاراً يعدل رجال العمر، وها هي تحوم، تقترب، يضرب ذنبها أو جسدها الخيط من نقطة قريبة من السنارة ضربة ثقيلة لها رنين خفي يصّاعد متوتراً فيوقّع صداه تحت أنامله المشدودة المرهفة.
ولشد ما كانت نفسه متألقة هذه اللحظة تجاه غريمته التي احتالت عليه، أو هكذا فهم الأمر، فلقد تنحت صورتها بثوبها عميق الزركشة الذي بالغت في إضفاء نوع من الوقار عليه يناسب وقارها لما جعلته بأكمام طويلة تضيق كلما انسابت نحو المعصم، وأذيال ثقيلة مسدلة وبثنيات مترادفة كأمواج البحر.
بغتة، تنامت المغازلة حتى كادت تلقي به في دائرة الوهم، إذ تهيأ لجذب الخيط، غير أن السكون المتذبذب ما عتم أن عاد ثانية وبدأت المراودة، بذات الإيقاع الثقيل الخفيف، وفي موازنة، هكذا عبر، قل أن كان لها نظير في تجاربه السابقة.
بل إنها بدأت تقضم الطعام قليلاً قليلاً، ومن بعيد بعيد وكما الهمس الناعم، لتطيح به هذه المرة في دائرة الحيرة المرة، فبين أن يجذب خيطه وقد يعود خائباً وبين أن ينتظر وينتظر حتى تستدرجها اللذة وتقع في المصيدة، كان يحار ويضطرب. لقد بدأت أصابعه تتسلم نترات خفيفة أشبه بنداءات قصية، ثم إذ اشتدت شيئاً واهتز الخيط اهتزازاً ما، وحاول أن يجذبه الجذبة المنشودة سكن كل شيء وعم الهدوء.
كلا.. إن شيطاناً حلّ في رأس تلك الخفية المبهمة، لتكون بهذه الصورة العصية، لتلغي عليه استيهاماته العذبة لحظة وضع صورتها في إطار الأفق الجميل، وتربك عليه أمله في الإيقاع بها.
نعم. إنما هكذا الثمين. ولكي يكون كذلك، فلا بد أن يكون عزيزاً منيعاً، فكر، ومال بجسده ناحية النهر كمن يحدق فيه بحثاً عن شيء يتراءى له، واستعد للمجابهة بأقصى قدر من اللياقة ورهافة الحس.
لقد سكن كل شيء فيه، بل جعل يتغافل عن ألمٍ أَلَمّ بعنقه، وآخر بكتفه الأيمن، وبعض من وهن أحاط بمعصمه، وعلى هذا تمنى أن يكون غريمه المزعج هذا غنيمة على قدر مشقته.
وخُيّل إليه، أنه بات يقرأ ملامح الفرصة القادمة فأفرد نفسه لها.. إنها قريبة لا ريب، وأنه يسمع الآن حوار صيده مع الطعم، بل إنه يسمع دمدمة الرغبة العاتية، ولهوجة الجسد المنفعل، والنهش المتسارع الموتور، ثم إذ شعر أن ثقلاً رصيناً صار يأخذ بأصابعه إلى النهر، شَدَّ يده سريعاً إلى الوراء، فانتفض الخيط مقوساً ملوحاً بسنارة بيضاء فقدت طعمها ولم تغنم بشيء.
كانت خيبته، هذه المرة، عظيمة، بيد أن صبره كان أعظم إذ أغنى سنارته بطعم آخر وقذف بها في المساحة ذاتها، وطفق ينتظر وثم هدوء داخلي عميق يتفشى في أوصاله، كما لو أنه امتداد لتلك الأرجاء الرحبة، أو مستمد منها.
هل للخيبة سم يخدر الحواس ويعطل الأحاسيس؟ ذلك ما لم يفكر به، إنما في الوقت الذي كان الخيط فيه بين أصابعه، كان فكر غائم يغشى نفسه وعينيه، حتى ليغدو الأمر عنده واحداً، أن يصيد أو لا يصيد. لقد مضت الساعات الطوال وحضرت القيلولة، وليس في إنائه سوى ذلك الإصبع الذي ليس بوسع أحد أن يعرف إن كان يدرك جيداً ما حل به أولا.
وبين أن يرخي سمعه للطارق الجديد، وبين أن يهيم مع هذا اللذيذ الذي يحيط به واستوت عنده الأشياء، كان ثمة شيء على هيئة موج خفيف يحف به، يثقل أنفاسه ويغلق عينيه ليأخذ به، من بعد، إلى النهر الذي ما كان، لفرط سحره عليه، إلا أن يقبل عليه، يغمر يديه في مائه الرقراق يداعب بشغف مويجات مترادفة غادرت موقعها النائي وأقبلت عليه.
من هناك.. من ذلك البعد الذي تراءى له كما لو أنه تحت عينيه، كانت أسماك متباينة الألوان يشف عنها زجاج الماء، ترغّبه فيها وتتهامس عليه بعيونها الزعفرانية وأفوامها الحمر.
أي سحر إذن يغمره، وأية لذة تعدل لذة أن يخترق طبقات الماء، نحو أسماك أسطورية تدعوه إليها، ولها مثل هذا القدر من الجاذبية والجمال، وأي غناء، بل يا له من غناء هذا الذي ينطلق من جوانبه وتردده معه آفاق الخضرة وشطآن النهر؟
هناك ولما تزل أمواج خفيفة طروب تأخذ به غامرة نحو أقصى سعادته، أحسَّ ببرودة الماء تخترق جسده وبشيءٍ له ملمس مخملي يلامس صفحة وجهه وعنقه وهو يمضي صعداً ليحيط بأعظم الأسماك، حتى إذا هَمّ أن يعود بها وقد استغرقه بهاء عينيها، اعتراه ما جعل أصابعه تشل وترتخي لتنزلق منها عائدة نحو أقاصي النهر، وغلالة من ظلال رخية تغمر رحلتها المتنائية، ليفتح عينيه على صفحة النهر المضطرب على ريح باردة بدأت تثير مياهه، وتضرب وجهه وتنزلق على رقبته العارية كما القماش المخملي، ويده المنسكبة تحته تقبض على فراغ.
جلجلت ضحكته في الفضاء.. لقد انسل الخيط.. رحل رحلة الأسماك السعيدة نحو خفايا ملاذاتها الساحرة العجيبة. وضاع في متاهات النهر.. سيستلقي هناك، وكأي شيءٍ طارئ غريب ستمر من فوقه أسماك وأسماك تسخر منه أو تتوارى عنه قبل أن يذوب ويتنصل عن سنارته ويمضي هلاماً مع تيارات الماء.
ذلك كان حلماً، وكان لايزال يراود عينيه.. لقد انسل الخيط.. مضى على كتف موجة أو على جناح ريح وحسبه أنه كان شيئاً جميلاً لينهض الصياد عليه، يعيد صيده الهزيل إلى كونه الباذخ الفسيح، ويعود إليها حاملاً في غده القادم سمكة الصياد العجوز.

ليست هناك تعليقات: