أخبار قناة العربية

Chat With Your Friends Freely And Openly .. No Limit For Time

الأحد، 13 يونيو 2010

حنـون مجيـد .. قصة : الفـأر مـرة أخـرى


الفأر مرة أخرى
هذه هي المرة الثانية التي يظهر فيها فأر في هذا البيت… وإذا كان الذي ظهر قبل عشر سنوات قد مَرَّ بسلام واختفى في مكان ما داخل البيت أو خارجه فإن هذا قد وقع في الفخ وها هو يلوب داخل مصيدة محكمة الصنع.
تعالي يا امرأة.. في بيتنا فأر.. صحت تلك الصيحة الخالدة القديمة. وأسرعت المرأة مستجيبة لندائي وصممت على أن لا يفلت الفأر هذه المرة مثلما أفلق جده الأعلى قبل تلك السنوات.
وبتنا نترقب ظهور الفأر هبوطاً من غرفة أعلى أو صعوداً من غرفة أسفل.. تسللاً من حفرة غير مرئية في جدار أو انسلالاً نحو مكان في النهار غير مكانه في الليل وهكذا.
وإذ أصبحنا منكرين أن يكون في بيتنا أكثر من فأر فإننا لم نكن نرى غير حيوان صغير واحد لـه أذنان طويلتان وأطراف دقيقة وذنب طويل.
ومن يدري فلربما هذا الذي نراه ليس سوى فأر، وحيد دخل البيت بطريقة الخطأ أو حتى بطريق القصد منذ يوم أو يومين؟
ولعل الصيحة الأقوى بعد صيحتي قبل يوم أو بعض يوم، صيحة ابنتي زينب حينما هرعت إلينا على خطواته السريعة يهبط السلم وينسل مثل ومضة ضوء نحو غرفة النوم.
ولأن الوقت صباح ومازالت هنالك أفرشة ونثار من ملابس النوم، فقد اختفى الفأر ثم جعلنا نبحث عنه في المطبخ اتساقاً مع قدرته الخارقة على المراوغة وحكمته التي تقول: إذا رأيتني هنا، فأنا هناك.
بل إنه لطريقته الفذة في الظهور المباغت أثارَ فزعي أنا أيضاً حين فاجأني ذات صباح يخرج مهرولاً نحو كوم من أحذية وجوارب اعتدنا ركنها في صندوق تحت السلم.
وإذ لم أكن متوقعاً ظهوره في هذا الوقت المبكر فقد كانت المفاجأة شديدة لأطفر من أمامه (ناجياً) بنفسي مطلقاً صوتاً لا إرادياً لا يطلقه الإنسان إلا عندما يؤخذ بصدمة عنيفة يفقد فيها توازنه واتزانه.
ورابنا في أنفسنا أن يكون لشيء تافه اسمه فأر، مثل هذا الأثر الذي جعلنا في يقظة مستمرة واستنفار دائم، يكون كذلك على مثل هذه الصورة التي تثير فينا قلقاً تارةً وخوفاً تارةً أخرى وفزعاً تارةً ثالثة.
وما الذي يقلقنا منه-تساءلنا مرة في صحوة طارئة ونحن نجتمع لمناقشة أمره- غير أنه مهووس إلى حدِّ الجنون بقرض الملابس والأفرشة والأغطية التي لا يمكن أن يضمها جميعاً صندوق واحد، أو حتى مجموعة صناديق؟
ثم لماذا هذه الصناديق-أجبنا- والفراش فراش والغطاء غطاء وإن الملابس أو بعضها يمكن أن يحتويها صندوق أو صندوقان.
لذا كان علينا أن نفكر في اقتناص الفأر، وسواء لدينا أن تكون الوسيلة طعاماً مسموماً أم مصيدة فئران.
ولأن الطعام المسموم يكلف مالاً، أي مال، والمصيدة متوفرة لابد، عند أحد الجيران فقد وجدنا بغيتنا حقاً عند جار كريم وكانت من المتانة والإحكام بحيث لم يمض وقت قصير إلا وكان في داخلها فأر.
صباحاً ولم يكن الأولاد قد غادروا إلى مدرستهم بعد، سمعنا اصطفاق باب المصيدة الخشب.. كان اصطفاقاً حاداً وعنيفاً وكما لو أنه يحمل لهفة قلوبنا للظفر بالفأر..
حقاً، أثلج قلوبنا صوت اصطفاق الباب فخف الأولاد أولاً يتسلقون السلم متسابقين نحو الغرفة التي وضعنا المصيدة فيها وهناك أطللنا عليه.
كان فأراً ليس غير.. ليس بالصغير وليس بالكبير بل أنموذج لفأر يثير التقزز ويستدعي الرأفة معاً ينظر إلينا مثلما ننظر إليه، وإذا كنا بدأنا ندمدم فوق رأسه بلغةٍ يسمعها ولا يفهمها فلم نكن ندري ما الذي كان يدمدم به.
وأخيراً ضحكنا فلقد دخل هذا الصغير المقلق المخيف عالم السجون من دون أن ينال ولو شيئاً من الطعام الذي قاده إلى هذا المصير.
يا لسوء الحظ فكرت أولاً ثم قلت وأنا أطل عليه بقامتي المديدة لأبدو لـه، لابدّ، مثل شجرة عملاقة أو حيوان خرافي بل ربما مثل جبل عظيم، وكانت قطعة اللحم الهزيلة لا تزال عالقة في عمودها الحديد الدقيق، تتأرجح كلما مَسّها منتقلاً من ركن إلى ركن وكدت أو هكذا تمنيت، وأنا أنظر إلى وضعه المزري، أن أضع قدمي على المصيدة أسحقها وأسحق معها هذا الذي أرّقنا في ماذا عساه يكون قرض من ملابسنا، أو أي نوع من ملابسنا اختار. على أنني ما إن فكرت بذلك أو كدت أقوم به، حتى أعلن أحد الأولاد عن نوع الموت والعقاب الذي يجب أن يطبق عليه: النفط أو الماء الحار؟
غير أن أحداً لم ينطق بهذا القرار وقد صار الأمر جدياً، وعلينا إذن أن نقرر كيفية الموت حتى انقلب الأمر إلى شيء آخر.. شيء يتعلق بموت حقيقي تزهق فيه روح ويتحول صاحبها من عالم الأحياء إلى عالم الأموات.
قلت: حسناً.. إننا الآن أمسكنا به- وكنا لانزال نطل عليه في جماعة غاضبة- وهو الآن تحت رحمة مصيدة رأيتم نتيجة الدخول فيها وترون متانة صنعها وشدة إحكامها فلا ضير إذن من أن نتركه حتى تعودوا من مدرستكم وننظر في أمره من جديد.
انصرف الأولاد ونسينا، زوجي وأنا في خضم عمل بيتي دؤوب، أن يكون ثمة فأر في مصيدة وفي غرفة في أعلى، حتى عاد الأولاد من مدرستهم وكان أول ما سألوا عنه هو الفأر.
وهبطوا به، وأحلّوا المصيدة في المطبخ قريباً من الباب المفضي إلى الحديقة، تحت ضوء ينساب من أعالي الفضاء ليغدو واضحاً للعين، قزماً قميئاً عيناه الخرزيتان عميقتان صامتتان وماكرتان.
لقد أقعى أخيراً قابعاً في ركن من أركان المصيدة ساكناً مستسلماً أصغر من حجمه الذي رأيناه عليه في الصباح فهتفنا جميعاً، إنه جائع لا ريب.
قلت:
-إذن هاتوا قطعة من خبز.
ثم إذ فتتت القطعة إلى قطع صغيرة ورميتها من خلال القضبان قريباً منه، تقدم منها والتقط بفمٍ دقيق قطعةً وجعل يقضمها.
فكّرتُ وهو يقضم طعامه بهدوء واطمئنان إنه لربما لا يعرف حتى الآن حجم المأزق الذي هو فيه، ولعل من هنا نشأت فكرة استخدام الفئران بهذه النسبة في التجارب التي تجرى على الحيوان في المعامل والمختبرات.
وبدأ الأولاد ينسحبون نحوه، وبدأ يلذّ لهم أن يراقبوه وهو يأكل طعامه ثم وهو يرفع رأسه المدبب، ينظر إليهم نظرة صامتة ليعود يتناول طعامه من جديد.
وإذا كنت أخيراً خشيت من شيء يبتدرني الأولاد عليه فهو أن يظل الفأر في مصيدته يتناول طعامه في وجبات يقررونها وإلى أمد غير معلوم.
ولربما راقت لي الفكرة التي فكرت بها أنا أولاً لا الأولاد، ولكنني لكي أحسم الموضوع أعلنت عن قرار التخلص منه.
انفض الجميع قليلاً أول الأمر، ثم انفرطوا انفراط مسبحة خيطها هزيل، ثم ما لبثوا أن تصاموا عن ندائي، معتبرين أن قتل هذا الحيوان الوديع شيء لا تقبله نفوسهم ولا يرتضيه الله.
-وما الذي تقترحون؟
لم يتكلم أحد، إنما جعلوا يتبادلون نظراً أبيض، كذلك النظر الذي يبدو على عين من لعبت برأسه الخمر.
-تكلموا وإلا صببت الماء الحار عليه.
قالوا جميعاً:
-كلا.. لقد قررنا وكفى.
حملوا المصيدة.. التقطوها كما لو أن في داخلها بلبلاً فريداً لا فأراً وانطلقوا بها خارج الدار.
هناك، وفي ساحة واسعة بعيدة بعض البعد، عرف الفأر حريته من جديد.

ليست هناك تعليقات: