لوحة فنان .. قصة قصيرة
ظهرت طلائعه من بعيد.. رجل غريب لا ريب.. ثم لما اقترب وتجلت ملامحه بدا أنه من مدينة أكبر. ورجل غريب من هذا النوع يفد إلى مدينة مثل مدينتنا يثير فضول رواد المقاهي، وأبناء الشوارع ومريدي ومرتادي الحانات والأسواق، بل إنه يثير فضول حتى النساء، إذ ما الذي لابد أن يكون وراء رجل يقطع مئات الأميال ليلقي برحاله في مدينة صغيرة تَفَطّر طابوقها وانتفخت جدرانها وتهرأت أبوابها، وما الذي سيعثر عليه في مقاهيها ومطاعمها غير كراسي خشب عتيق يأكل الجسد، وطعام بارد هش يثير الامتعاض؟
تقدم الرجل بخطا باردة منقلاً نظراً فوقياً على رؤوس جُلاّس المقهى الذين انتبهوا إليه بذلك التكريم الذي يقدمه سلفاً صاحب المقام لضيفه الغريب. على أن الرجل وهو يختار كرسياً منعزلاً ويرمي بجسده الفارع عليه، يلقي على النفوس ظلالاً من السكون المشحون بتوجس مريب، كذلك الذي يحدثه رجل من الغرب يدخل مدينة من الشرق.
نزع الرجل، المحدد الملامح عن كتفه حقيبته وطلب شاياً بإشارة من يده قبل أن ينصرف إلى أحد على الرغم مما كانت تقوم به عيناه من حركة دائبة، بدت عابرة وتلقائية عاد الجميع بعدها إلى لهوٍ وأحاديث كان على أثرها أن امتلأ المقهى بسابق ضجته.
عاد الرجل وطلب شاياً آخر امتص معه سيجارة واحدة جعل دخانها يكون سحائب ثقيلة فوق رأسه وبين عينيه وقد بان على سيمائه استقرار المسافر بعد أن يستقر به المكان.
انتبه إلى المحيطين به وإلى المدينة التي بدا شارعها الرئيسي الذي يطل عليه المقهى يزدحم بالناس وقد مالت شمس تموز للمغيب. بغتة رفع يده قليلاً للأعلى فاستقر نظره على ساعة رقيقة ملساء تامة العتمة إلا من خطوط ذهبية تفرعت في أربعة مناح مختلفة متساوية المسافات، رقدت بينها نتوءات دقيقة على هيئة نقط تكاد لا تبين، فنهض من مكانه واتجه نحو رجل عجوز اعتزل هو الآخر مجلسه في المقهى وحياه تحية صامتة واستأذنه بالجلوس.
استخرج من محفظة يدوية صغيرة حبلت بأشياء خاصة ورقة جريدة أو مجلة سعى عليها زمن طويل فكانت شبه تالفة حملت في وسطها صورة لرجل جالس على دكة أو مقعد وسأله عن حياة رسامها الذي عرف أنه من هذه المدينة ثم أضاف:
-لقد عثرت على هذه الصورة مصادفة بين أوراق قديمة تعود لوالدي:
التفت العجوز إليه وقال:
-وما الذي تبتغيه بالضبط؟
قال:
-فضلاً عن التعرف إلى حياة الفنان أحاول العثور على اللوحة الأصل في متحف المدينة مثلاً، لاستكمل مشروعاً بدأت به منذ سنوات. فأنا دارس للفن. سكت هنيهة، أطلق خلالها آهة نمّت عن لهفة حارة وأردف:
-لقد أثارت هذه اللوحة القديمة انتباهي إثارة غامضة وها أنذا أحاول الوصول إلى كنهها لأضعها ضمن مجال دراستي.
لم يجب الرجل العجوز، إنما ظل ساهماً مستغرقاً في تفكير عميق ما لبث بعده أن استأذن الضيف وغادره من دون وداع، وهو وحده يعرف معرفة تامة تفاصيل حياة الفنان وظروف اللوحة مثلما يعرف المؤرخ تفاصيل مدينته.
وقليل هم الذين يعرفون شيئاً كثيراً عن حياة الرجل الذي كانت آخر لوحاته بعنوان (زوارق الألم) غادر بعد تنفيذها المدينة إلى مدينة أخرى، آثرَ الصمت عندها حتى مات.
ويجمع نقاد تلك الحقبة التي مضى عليها ما يقارب المائة عام. إن الفنان هذا لم يكن فناناً عادياً، إنما كان استثناء خرج من قاعدة أرسى دعائمها فنانو المدينة من الرعيل الأول الذين مارسوا الرسم بأسلوب يحاكي الطبيعة، ولكن بألوان أكثر جاذبية وتقنية أكثر صرامة.
وعلى الرغم من أنه كان أكثر فناني المدينة التصاقاً بالواقع إلا أنه أقلهم رسوماً وأجرأهم خروجاً على المألوف، ذلك أنه لم يكن يلتزم في رسوماته بالدقة الفنية التي كان يتحدد بها معاصروه، كما لم تكن موضوعاته قريبة من الموضوعات التي عُني بها هؤلاء، ولعل في تجربته جندياً خاض غمار حرب قديمة قطعت فيها أصابع يده اليسرى وقدمه اليمنى، دافعاً لا شعورياً لخلق عوالم غريبة جعلت النظر إلى فنه انطلاقاً من مواصفات جسده، وهي عوالم الموضوع فيها مضطرب غير متوازن تلمس في أدق تفاصيله، مسحة من الألم والوحدة والوحشة، وكثيراً ما كان الهدوء الذي يرين على سطح البحيرة مثلاً دافعاً للنظر إلى الأفق البعيد، ليقع على بقعة تقطنها غيوم سود جللت جانباً من السماء ولا يلوح أن من ورائها حركة تبدد كثافتها أو تزيح كتلها. وحتى الغابة التي غالباً ما صورها الرسامون هَوجاء تارةً أو هادئة مؤنقة تختال بين مروجها شمس خفر تارة أخرى، رسمها ساكنة موحشة تكمن في عزلتها روح باردة صماء، على الرغم من أنك قد تعثر في هامشها على شجرة يمثل انكسار ساقها الحاد انكساراً خالداً في الذات لم يجد الرسام بُدّاً من الركون إليه والتطامن معه، لما قد يحققه له ذلك من راحة ينساق نحو التلذذ بها أولئك المنكسرون في ذواتهم منذ النشأة الأولى.
لم يكن الرسام غريباً عن المدينة، بل كان واحداً من أبرز أبنائها الذين دافعوا بالسلاح عنها، وتميزوا كذلك بالحيوية في العمل والانصراف إلى كل ما يحقق الذات من لذة وانتشاء وجدهما بعد العشرين من عمره في الرسم. ولربما كان لموت أمه، احتراقاً بالنار في حادثة غامضة مات أبوه بعدها بأيام، ذلك الارتعاب من اللون الأحمر والتوجس من اللون الرمادي لما كانا يذكرانه بالنار والدخان.
على أنه إذا تردد في استخدام اللون الأحمر أو اعتزله في لوحاته قدر الإمكان، فإنه كثيراً ما خادع الرمادي وذللَه بألوان أخرى يدخل بها عليه، أو يلوذ بها منه.
وكاستنتاج أخير فإن متحدثي الفن في تلك الفترة كانوا يرون في شخصيته الفنية فناناً قديراً غالب اضطراب روحه وجسده بفن ليس بعيداً عنهما، بل كثيراً ما عبر عن انكسارات ذاته بلوحات فضحت ذاته أو أشارت إليها. من ذلك لوحته التي كانت باكورة أعماله بعد أن نضج فنه وصار يكتسب سمعة خاصة قامت على إعجاب زملائه الرسامين وبعض ممن كانوا يعدون نخبة المدينة من متحدثين في الفن ومثقفين ومتذوقين.
رسم الرسام لوحته على قطعة من الورق الأبيض المحبب بقياس 15×25 إنشاً، مظللة جميعها بلون رمادي باهت خالطته صفرة تلاشت وإياه تلاشياً يكاد يكون تاماً، لتمنحه سمة درامية أطرت، بإطار يتداخل فيه اللون مع الموضوع، صورة لرجل شاب جالس على دكّة وقد سالت دماؤه من أنفه وعلى يساره وفي الأقصى منه ثلاثة رجال مدبرين.
يجلس الرجل متعباً منهاراً، رأسه للأسفل وعيناه في الفراغ، لا يبدو عليه انخذال كبير على ما حل به ولا استغراق في بركة الدم التي سالت من أنفه وفمه وتجمعت بين قدميه، إنما كان شارد الذهن غائص النظر قد استبدّ به هَمٌّ آخر، ربما تعلق بما انصب عليه نظر الرجال الثلاثة المدبرين.
بين قدمي الرجل المنتعلين حذاءين ثقيلين، تجمعت الخيوط الدموية على هيئة صفحة قانية اللون، حام حولها نور شفيف أحاطها بطوق لامع غير مكتمل الاستدارة، إذْ لم تكن الصفحة قد توقفت عن النمو بعد، وكانت قد استطالت في نقطة منها فشكلت ما يشبه قبضة انفردت سبابتها بوعد أو وعيد.
إن الذي أكسب اللوحة بعداً آخر، ورقات الشجر البنية ذوات الحواف الدكناء الغامقة التي لا يعرف أحد من أية شجرة سقطت ثم انحدرت تحت قدمي الرجل في اضطراب مشوش، لتركن أخيراً قريباً من بركة الدم في لوحة ليس فيها شجر. ومن ينظر إلى الرجال الثلاثة الذين لم يظهر الرسام من وجوههم سوى جوانب غائمة يجد أنهم كمن فاز بغنيمة، عَبّر عنها التمام أجسادهم على الشيء الذي بين أيديهم، وليس على الشيء الذي حصل للرجل خلفهم.
غير أن نظرة الرجل الشاب وهي تثقب الأرض وتغوص فيها توحي بأن ما بين أيدي الرجال، ربما كان شيئاً يعود له، وأنه يمكن أن يكون ذا قيمة في ظرف من الظروف، ولذلك فإن نقاد المدينة اعتقدوا من خلال مواصفات هذه اللوحة أن الرسام إنما صوَّر القصة الشهيرة التي تقول: إن حرباً وقعت بين مدينتنا والمدينة المجاورة كان من جراء هولها أن انتهت آخر معاركها بالسلاح الأبيض بعد أن نفد من أيدي الجنود المتحاربين سلاح البارود، وأن جندياً شجاعاً من مدينتنا قاتل جندياً من المدينة الأخرى فامتنع قتله عليه، لما تمتع به ذلك الجندي من كفاءة في القتال وشجاعة نادرة في الحرب نالت إعجاب جندينا هذا، وهكذا في إعجاب متبادل فريد، توقف الجنديان المتصارعان عن القتال، ووهب كل منهما سلاحه للآخر ليفعل به ما يشاء، فدفنا السلاحين في الأرض العراء ومنح كل منهما للآخر هديته التي على رقبته، لتكون شاهداً على شجاعته وإقدامه، ودليلاً على الحب الذي قد ينشأ غبّ اصطراع لا غالب فيه. بيد أن جندينا وهو في طريق عودته إلى المدينة متعباً واهن العضلات، تألب عليه ثلاثة رجال نزعوا عن رقبته هدية الجندي الشجاع ذاك وأشبعوا وجهه ضرباً بقبضاتهم بعد أن دافع عن نفسه دفاع المستميت.
كانت عودة الجندي كما رآها هو عودة خائبة، إذ لم يجد فيها شيئاً يقوله أو يتحدث به لأولئك الذين لم يشتركوا في الحرب وباتوا ينتظرون بفارغ الصبر قصص الجنود العائدين. إن الجندي هذا الذي رأى النقاد أن الصورة تلك إنما هي صورته على أكثر تقدير، أمسى معتكفاً على انطواء غريب، رأى فيه الآخرون سِمة من سمات الجنود الذين لم يفعلوا شيئاً في الحرب، أو ليس لديهم ما يقولونه أو يستشهدون به على بطولة أو فعل. على أية حال، لقد لبث الرجل الغريب في المقهى فترة قصيرة يُقلّب طرفاً حائراً مخذولاً في المدينة التي انتشر الظلام في أرجائها، ثم لم يلبث أن غادرها بعد أن غيبت الأزقة والدروب آخر روادها. لم أشأ أنا الآخر أن أعرف الرجل هذا بتفاصيل اللوحة، ذلك أنها جزء من تراث يعود إلى هذه المدينة التي أكل الدهر عليها وشرب. إن الفن سيبقى غائباً ما كانت المدينة التي تحتضنه غائبة عن الذهن، وهذا هو ما كان عليه حال مدينتنا التي احتفظت باللوحة في واحدة من مقاهيها الرخيصة من دون أن يفطن إلى وجودها أحد.
ظهرت طلائعه من بعيد.. رجل غريب لا ريب.. ثم لما اقترب وتجلت ملامحه بدا أنه من مدينة أكبر. ورجل غريب من هذا النوع يفد إلى مدينة مثل مدينتنا يثير فضول رواد المقاهي، وأبناء الشوارع ومريدي ومرتادي الحانات والأسواق، بل إنه يثير فضول حتى النساء، إذ ما الذي لابد أن يكون وراء رجل يقطع مئات الأميال ليلقي برحاله في مدينة صغيرة تَفَطّر طابوقها وانتفخت جدرانها وتهرأت أبوابها، وما الذي سيعثر عليه في مقاهيها ومطاعمها غير كراسي خشب عتيق يأكل الجسد، وطعام بارد هش يثير الامتعاض؟
تقدم الرجل بخطا باردة منقلاً نظراً فوقياً على رؤوس جُلاّس المقهى الذين انتبهوا إليه بذلك التكريم الذي يقدمه سلفاً صاحب المقام لضيفه الغريب. على أن الرجل وهو يختار كرسياً منعزلاً ويرمي بجسده الفارع عليه، يلقي على النفوس ظلالاً من السكون المشحون بتوجس مريب، كذلك الذي يحدثه رجل من الغرب يدخل مدينة من الشرق.
نزع الرجل، المحدد الملامح عن كتفه حقيبته وطلب شاياً بإشارة من يده قبل أن ينصرف إلى أحد على الرغم مما كانت تقوم به عيناه من حركة دائبة، بدت عابرة وتلقائية عاد الجميع بعدها إلى لهوٍ وأحاديث كان على أثرها أن امتلأ المقهى بسابق ضجته.
عاد الرجل وطلب شاياً آخر امتص معه سيجارة واحدة جعل دخانها يكون سحائب ثقيلة فوق رأسه وبين عينيه وقد بان على سيمائه استقرار المسافر بعد أن يستقر به المكان.
انتبه إلى المحيطين به وإلى المدينة التي بدا شارعها الرئيسي الذي يطل عليه المقهى يزدحم بالناس وقد مالت شمس تموز للمغيب. بغتة رفع يده قليلاً للأعلى فاستقر نظره على ساعة رقيقة ملساء تامة العتمة إلا من خطوط ذهبية تفرعت في أربعة مناح مختلفة متساوية المسافات، رقدت بينها نتوءات دقيقة على هيئة نقط تكاد لا تبين، فنهض من مكانه واتجه نحو رجل عجوز اعتزل هو الآخر مجلسه في المقهى وحياه تحية صامتة واستأذنه بالجلوس.
استخرج من محفظة يدوية صغيرة حبلت بأشياء خاصة ورقة جريدة أو مجلة سعى عليها زمن طويل فكانت شبه تالفة حملت في وسطها صورة لرجل جالس على دكة أو مقعد وسأله عن حياة رسامها الذي عرف أنه من هذه المدينة ثم أضاف:
-لقد عثرت على هذه الصورة مصادفة بين أوراق قديمة تعود لوالدي:
التفت العجوز إليه وقال:
-وما الذي تبتغيه بالضبط؟
قال:
-فضلاً عن التعرف إلى حياة الفنان أحاول العثور على اللوحة الأصل في متحف المدينة مثلاً، لاستكمل مشروعاً بدأت به منذ سنوات. فأنا دارس للفن. سكت هنيهة، أطلق خلالها آهة نمّت عن لهفة حارة وأردف:
-لقد أثارت هذه اللوحة القديمة انتباهي إثارة غامضة وها أنذا أحاول الوصول إلى كنهها لأضعها ضمن مجال دراستي.
لم يجب الرجل العجوز، إنما ظل ساهماً مستغرقاً في تفكير عميق ما لبث بعده أن استأذن الضيف وغادره من دون وداع، وهو وحده يعرف معرفة تامة تفاصيل حياة الفنان وظروف اللوحة مثلما يعرف المؤرخ تفاصيل مدينته.
وقليل هم الذين يعرفون شيئاً كثيراً عن حياة الرجل الذي كانت آخر لوحاته بعنوان (زوارق الألم) غادر بعد تنفيذها المدينة إلى مدينة أخرى، آثرَ الصمت عندها حتى مات.
ويجمع نقاد تلك الحقبة التي مضى عليها ما يقارب المائة عام. إن الفنان هذا لم يكن فناناً عادياً، إنما كان استثناء خرج من قاعدة أرسى دعائمها فنانو المدينة من الرعيل الأول الذين مارسوا الرسم بأسلوب يحاكي الطبيعة، ولكن بألوان أكثر جاذبية وتقنية أكثر صرامة.
وعلى الرغم من أنه كان أكثر فناني المدينة التصاقاً بالواقع إلا أنه أقلهم رسوماً وأجرأهم خروجاً على المألوف، ذلك أنه لم يكن يلتزم في رسوماته بالدقة الفنية التي كان يتحدد بها معاصروه، كما لم تكن موضوعاته قريبة من الموضوعات التي عُني بها هؤلاء، ولعل في تجربته جندياً خاض غمار حرب قديمة قطعت فيها أصابع يده اليسرى وقدمه اليمنى، دافعاً لا شعورياً لخلق عوالم غريبة جعلت النظر إلى فنه انطلاقاً من مواصفات جسده، وهي عوالم الموضوع فيها مضطرب غير متوازن تلمس في أدق تفاصيله، مسحة من الألم والوحدة والوحشة، وكثيراً ما كان الهدوء الذي يرين على سطح البحيرة مثلاً دافعاً للنظر إلى الأفق البعيد، ليقع على بقعة تقطنها غيوم سود جللت جانباً من السماء ولا يلوح أن من ورائها حركة تبدد كثافتها أو تزيح كتلها. وحتى الغابة التي غالباً ما صورها الرسامون هَوجاء تارةً أو هادئة مؤنقة تختال بين مروجها شمس خفر تارة أخرى، رسمها ساكنة موحشة تكمن في عزلتها روح باردة صماء، على الرغم من أنك قد تعثر في هامشها على شجرة يمثل انكسار ساقها الحاد انكساراً خالداً في الذات لم يجد الرسام بُدّاً من الركون إليه والتطامن معه، لما قد يحققه له ذلك من راحة ينساق نحو التلذذ بها أولئك المنكسرون في ذواتهم منذ النشأة الأولى.
لم يكن الرسام غريباً عن المدينة، بل كان واحداً من أبرز أبنائها الذين دافعوا بالسلاح عنها، وتميزوا كذلك بالحيوية في العمل والانصراف إلى كل ما يحقق الذات من لذة وانتشاء وجدهما بعد العشرين من عمره في الرسم. ولربما كان لموت أمه، احتراقاً بالنار في حادثة غامضة مات أبوه بعدها بأيام، ذلك الارتعاب من اللون الأحمر والتوجس من اللون الرمادي لما كانا يذكرانه بالنار والدخان.
على أنه إذا تردد في استخدام اللون الأحمر أو اعتزله في لوحاته قدر الإمكان، فإنه كثيراً ما خادع الرمادي وذللَه بألوان أخرى يدخل بها عليه، أو يلوذ بها منه.
وكاستنتاج أخير فإن متحدثي الفن في تلك الفترة كانوا يرون في شخصيته الفنية فناناً قديراً غالب اضطراب روحه وجسده بفن ليس بعيداً عنهما، بل كثيراً ما عبر عن انكسارات ذاته بلوحات فضحت ذاته أو أشارت إليها. من ذلك لوحته التي كانت باكورة أعماله بعد أن نضج فنه وصار يكتسب سمعة خاصة قامت على إعجاب زملائه الرسامين وبعض ممن كانوا يعدون نخبة المدينة من متحدثين في الفن ومثقفين ومتذوقين.
رسم الرسام لوحته على قطعة من الورق الأبيض المحبب بقياس 15×25 إنشاً، مظللة جميعها بلون رمادي باهت خالطته صفرة تلاشت وإياه تلاشياً يكاد يكون تاماً، لتمنحه سمة درامية أطرت، بإطار يتداخل فيه اللون مع الموضوع، صورة لرجل شاب جالس على دكّة وقد سالت دماؤه من أنفه وعلى يساره وفي الأقصى منه ثلاثة رجال مدبرين.
يجلس الرجل متعباً منهاراً، رأسه للأسفل وعيناه في الفراغ، لا يبدو عليه انخذال كبير على ما حل به ولا استغراق في بركة الدم التي سالت من أنفه وفمه وتجمعت بين قدميه، إنما كان شارد الذهن غائص النظر قد استبدّ به هَمٌّ آخر، ربما تعلق بما انصب عليه نظر الرجال الثلاثة المدبرين.
بين قدمي الرجل المنتعلين حذاءين ثقيلين، تجمعت الخيوط الدموية على هيئة صفحة قانية اللون، حام حولها نور شفيف أحاطها بطوق لامع غير مكتمل الاستدارة، إذْ لم تكن الصفحة قد توقفت عن النمو بعد، وكانت قد استطالت في نقطة منها فشكلت ما يشبه قبضة انفردت سبابتها بوعد أو وعيد.
إن الذي أكسب اللوحة بعداً آخر، ورقات الشجر البنية ذوات الحواف الدكناء الغامقة التي لا يعرف أحد من أية شجرة سقطت ثم انحدرت تحت قدمي الرجل في اضطراب مشوش، لتركن أخيراً قريباً من بركة الدم في لوحة ليس فيها شجر. ومن ينظر إلى الرجال الثلاثة الذين لم يظهر الرسام من وجوههم سوى جوانب غائمة يجد أنهم كمن فاز بغنيمة، عَبّر عنها التمام أجسادهم على الشيء الذي بين أيديهم، وليس على الشيء الذي حصل للرجل خلفهم.
غير أن نظرة الرجل الشاب وهي تثقب الأرض وتغوص فيها توحي بأن ما بين أيدي الرجال، ربما كان شيئاً يعود له، وأنه يمكن أن يكون ذا قيمة في ظرف من الظروف، ولذلك فإن نقاد المدينة اعتقدوا من خلال مواصفات هذه اللوحة أن الرسام إنما صوَّر القصة الشهيرة التي تقول: إن حرباً وقعت بين مدينتنا والمدينة المجاورة كان من جراء هولها أن انتهت آخر معاركها بالسلاح الأبيض بعد أن نفد من أيدي الجنود المتحاربين سلاح البارود، وأن جندياً شجاعاً من مدينتنا قاتل جندياً من المدينة الأخرى فامتنع قتله عليه، لما تمتع به ذلك الجندي من كفاءة في القتال وشجاعة نادرة في الحرب نالت إعجاب جندينا هذا، وهكذا في إعجاب متبادل فريد، توقف الجنديان المتصارعان عن القتال، ووهب كل منهما سلاحه للآخر ليفعل به ما يشاء، فدفنا السلاحين في الأرض العراء ومنح كل منهما للآخر هديته التي على رقبته، لتكون شاهداً على شجاعته وإقدامه، ودليلاً على الحب الذي قد ينشأ غبّ اصطراع لا غالب فيه. بيد أن جندينا وهو في طريق عودته إلى المدينة متعباً واهن العضلات، تألب عليه ثلاثة رجال نزعوا عن رقبته هدية الجندي الشجاع ذاك وأشبعوا وجهه ضرباً بقبضاتهم بعد أن دافع عن نفسه دفاع المستميت.
كانت عودة الجندي كما رآها هو عودة خائبة، إذ لم يجد فيها شيئاً يقوله أو يتحدث به لأولئك الذين لم يشتركوا في الحرب وباتوا ينتظرون بفارغ الصبر قصص الجنود العائدين. إن الجندي هذا الذي رأى النقاد أن الصورة تلك إنما هي صورته على أكثر تقدير، أمسى معتكفاً على انطواء غريب، رأى فيه الآخرون سِمة من سمات الجنود الذين لم يفعلوا شيئاً في الحرب، أو ليس لديهم ما يقولونه أو يستشهدون به على بطولة أو فعل. على أية حال، لقد لبث الرجل الغريب في المقهى فترة قصيرة يُقلّب طرفاً حائراً مخذولاً في المدينة التي انتشر الظلام في أرجائها، ثم لم يلبث أن غادرها بعد أن غيبت الأزقة والدروب آخر روادها. لم أشأ أنا الآخر أن أعرف الرجل هذا بتفاصيل اللوحة، ذلك أنها جزء من تراث يعود إلى هذه المدينة التي أكل الدهر عليها وشرب. إن الفن سيبقى غائباً ما كانت المدينة التي تحتضنه غائبة عن الذهن، وهذا هو ما كان عليه حال مدينتنا التي احتفظت باللوحة في واحدة من مقاهيها الرخيصة من دون أن يفطن إلى وجودها أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق