أخبار قناة العربية

Chat With Your Friends Freely And Openly .. No Limit For Time

الجمعة، 18 يونيو 2010

الشاعر السورى مظهر الحجّى .. قصيدة : مأساة الطين


 في اليومِ السَّابعْ وصلتْ بغدادُ إلى الحَضْرَةِ زائغَةَ العَيْنَيْنِ
وكانَتْ مُتَوَجّسَةً
كانَ الوقتُ يُدافِعُ أُولى أسدافِ اللَّيلِ
أَوْ بعدَ زوالِ أَواخِرِ أَنْوارِ اليومِ المَصْعُوقِ
وكانَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ(1) يهلُّ مَهِيبا
يَتَصَّدرُ مَجْلِسَهُ
يسندُ في أَصْلِ السَّاريةِ الوُسْطَى
رأساً يتعمَّمُ "بالحكمةِ والموعظةِ الحَسَنَهْ"
يتزمَّلُ بالحرفِ المتودّدِ والإيمانِ
يبحثُ في بعضِ أحاديثِ "رسولِ اللّهِ" يناظرُ في "الشُّورَى"
و"الناسُ سَواسِيَةٌ"
يستشهدُ بالمُحْكَمِ من آياتِ القُرآنِ
كان بَليغاً
يفتحُ في العقلِ الهاجعِ أبواباً مُغْلَقَةً
يوقظُ ذاكَ الإنسانَ النائمَ في جسدِ الإنسانْ
-أَمُريدٌ أَمْ مُرتابٌ
ذاكَ المُنْتَبذُ في أَقْصَى ساريةٍ في مَسْجدِنَا
يا بْنَ عَطاءٍ(2)..
فيمَ اعتزلَ الطالبُ مَجلسنا؟
-ذاكَ لأنَّ الطالبَ أَضْحى مَطْلوبا
يُبحرُ في مَلَكُوتِ العقل المسكون بأضدادٍ مُتَواشجةٍ
تَتَماهى فيه الدَّهْشَةُ بالحَيْرَةِ
والوَجَعِ المتوفِّزِ في خاصرةِ الرّوحِ
فيغدو فوقَ جَبينِ العَصرِ الفَوَّارِ وحيداً... مَصلوبا
تَتْركُ فيه حواراتُ النّدمانِ حُروقاً وَالِغَةً ونُدوبا
يسألُ زاويةَ الحانةِ عن رُكْنٍ مَنْذُورٍ للعَتْمَةِ والنسيانِ
كرسيٍّ تنزلقُ الأضواءُ بعيداً عنهُ
ولا تجدُ الأضدادُ إليه دروبا.
-يا بْنَ عطاءٍ.. أَفْصِحْ
إنّ تقاريرَ البصَّاصينَ تناهَتْ في الحيرةِ والبهتانِ
جَمَعَتْ أحزابَ الأرضِ بشخصٍ مَسحورٍ
تَتَلَبَّسُهُ الأفكارُ وَمَسُّ الشّيطانِ وطُهْرُ الأديانِ
يا بْنَ عَطَاءٍ.. أفصحْ بعضَ الإفصاحِ،
فإنّ النصَّ تقاربُهُ تأويلاتٌ متعدّدةٌ،
أَوْ يُرْهِقُهُ التَّفْسيرُ وتفسيرُ التّفسيرِ،
فَمَنْ أنتَ؟!
صُوفِيٌّ يسكنُ زاويةَ الوقتِ،
يُرَتِّلُ أورادَ الأزمانِ المَيْتَةِ،
يَهْجَعُ في ذُلِّ سكينتهِ الأزليّهْ؟
أَمْ بَدَوِيٌّ مِمَّنْ رفضُوا رفعَ كتابِ اللّهِ على رُمْحٍ
خَرجوا سَيْفاً يعلنُ تعطيلَ الوقتِ وخَلْعَ الأوثانِ؟
رَفَضُوا أَنْ يحكمَ إنسانٌ بدماءِ أخيهِ الإنسانِ
أَمْ زنديقٌ طاردَهُ المهديُّ زماناً
فَتَخَفَّى في الحاناتِ وأخيلةِ الشِّعْرِ،
وأوراقِ الكُتُبِ المنسيّةِ في أسواقِ الورَّاقينَ ببغدادَ،
وها أنتَ الآنَ تُنَفِّضُ عن كتفيكَ المجلودينِ غبارَ التُّهمةِ،
تَخْرُجُ من مخطوطاتِ التّاريخِ لتعلنَ أنَّكَ رأسُ الإيمانِ
لكنَّ الحرّيةَ تَسْتَهويكَ كثيراً
والخمرةَ والأُنثى ومناكدةَ السّجَّانِ. .
يابْنَ عَطَاءٍ..
إنَّ الوقتَ تغيّرَ
أينَ سَتُخفي هذا القلقَ المتوفِّزَ في عينيكَ غزالاتٍ نافرةً؟
لن تنجوَ في هذا الزّمنِ المُتَلَوِّنِ بالبصّاصينَ وعُشَّاقِ الحُظْوَةِ،
وابنِ نَهِيكٍ(3)، فالسُّلطانُ هو السلطانُ
أَوَ ما زلتَ تقولُ بخلقِ القرآنِ؟
ما زلتَ تقولُ بأنَّ العقلَ هو الرّبّانُ؟
أَبْشِرْ بالسَّيْفِ ونِطْعٍ ظَمْآنٍ
أَمْ قلتَ بأنَّكَ تؤمنُ أنَّ القرآنَ كلامُ اللّهِ الدهريُّ
وتؤمنُ بالسّلفِ الصّالحِ والإنجيلِ وصمتِ الرُّهبانِ؟
كيفَ تجاورَ فيكَ الصُّوفيُّ معَ ابنِ الأزرقِ(4) والزِّنديقِ
وداعيةِ القوميّينَ ومُتَّهمٍ بالسلفيّةِ والفَوْضَى
ومناهَضَةِ التَّطبيعِ وتُجّارِ السّوقِ الأَوْسَطْ؟!
كيفَ تجاورتِ الأضدادُ جميعاً؟!
لا ينجيكَ الإعلانُ
وتبقى فوقَ صليبِ الوقتِ
يُطَوِّحُكَ السلطانُ كما يَهوى
بينَ سياطِ الكُفْرِ وشَهْدِ الإيمانِ
***
يا ربَّ الأربابِ أَلاَ بابٌ أطرقُهُ؟
هذا الوقتُ يمرُّ، وهذي الأرضُ جهاتٌ فاغِرَةٌ
تغتالُ الأحبابَ، وهذا عبدُكَ عُرْيَانٌ
فوقَ صليبِ الوقتِ،
فكيفَ يكونُ الغفرانُ؟؟
يا خَمّارُ إِلَيَّ ببعضِ التِّرْياقِ
فإنَّ أَفاعي الأَضْدادِ الملعونةِ تنهشُ رَأْسِي
يا خمّارُ إليَّ بِفَيْضٍ من خَمْرَتِكَ المنذورةِ للأحزانِ
جرّبْ دَنّاً آخرَ، عَلَّ الخمرةَ تُغوي الأضدادَ ببعضِ الصَّحوِ
جرّبْ آخرَ دَنٍّ في قاعِ الأقبيةِ الدَّهْرِيَّةِ!!
يا ربَّ الحانةِ...
هذي الخمرةُ مَحْضُ صُرَاحٍ من ماءِ الواحاتِ الساكنةِ
غِشٌّ لا يعرفُ معصرةً أو كرماً
وَهْمٌ.. لا يفعلُ في الرّأسِ كفعلِ الخمرِ ولا يجلبُ سُكْرا
أينَ النّشوةُ فالهَذَيانُ وبعضٌ مِمَّا يُبْدِعُهُ السّكرانُ الماجِنُ
في طرقاتِ الحيِّ الهاجِعِ،
أينَ العربدةُ المجنونةُ، أينَ الدّيكُ المسكونُ بعشقِ الخلقِ
يتفطّرُ شعراً مفجوعاً أو مَمنوعا
بَلْ.. أينَ الراحةُ والنسيانُ؟!
هذا الصَّحْوُ الأَخْرَقُ ما زالَ يُؤَجِّجُ نارَ الأضدادِ
وأفكاراً تَتْرى .
-يا صاحبَ هذا الرأسِ المُثْقَل بالأضدادِ تَرَحَّلْ عن حانَتِنا
وابحثْ عن خمركَ في حاناتٍ أُخرى
خُذْ عَقْلَكَ وارحلْ
إنَّ وباءَ الأضدادِ خطيرٌ
لا تُحدثْ في النّاسِ خُروقاً لا تَرْقَعُها خمرةُ هذي الدُّنيا
فالحانةُ عامرةٌ
والنّاسُ هُمومٌ سَكْرَى .
-آهِ.. ندامايَ على أطرافِ البُستانِ يذوبونَ حَنيناً
وأنا في قلبِ البُستانِ
لكنّي مَمنوعٌ مِنْ أَنْ أَدْنُوَ من زهوِ الأغصانِ
محرومٌ أنْ ألمسَ نارَ التّوتِ البريِّ وياقوتَ الرمّانِ
يا بنَ عَطاءٍ..
كيفَ تسيلُ نفوسُ الأصحابِ على حَدِّ الطّرقاتِ،
تصيرُ الغُربةُ دارا
بَلْ كيفَ يكونُ البستانُ أمامَ العينِ، قريباً،
وبعيداً كبلادِ "الْواقِ الْواقِ" مَزارا؟
يا صاحبَ هذي الحانةِ..
هل عندكَ خمرٌ تأتيني بالأحبابِ قليلاً
إنَّ الليلَ طويلٌ ومخيفٌ
والوحشةُ تُطْبِقُ فوقَ الصّدرِ جداراً من لهبٍ
أتلفّتُ حَولي..
أغمزُ للطّينِ بعينٍ مستوحشةٍ
لكنَّ الطّينَ يُكِبُّ على الخمرِ بصمتِ الأمواتِ
وأمدُّ لِسَاني
أَعْبَثُ بالبعضِ لعلّي آنسُ فيهِ قليلاً من أَرَقِ الرُّوحِ
يَزْوَرُّ بَعيداً
يَنْتَبِذُ النّاسَ إلى أَقْصَى الحانةِ ذِئباً مَشْدُوهاً
قد ماتَ بداخلهِ الإنسانُ
تنداحُ الرّوحُ بعيداً،
في هذا الصَّمتِ المَسْكُونِ بآلافِ الغِيلانِ
تبحثُ عن بعضِ الأُنْسِ المتألّهِ في الأنثى والإنسانِ.
ناديتُ بصوتٍ هَدَّجَةُ الوجدُ:
يا ربَّ الحانةِ..
أشتاقُ إلى مَنْ أَشْتُمُهُ أَوْ يَشْتُمني
مَنْ أَرْجُمه أَوْ يَرْجُمُني
فاسكبْ يا خَمّارُ بكأسيَ بعضَ الخمرِ
لعلَّ الأحبابَ يجيئونَ قليلاً
أَوْ يحملني الوَهْمُ إلى حيثُ ندامايَ يَهيمونَ بلا عُنوان
***
يا بْنَ عطاءٍ..
تحتَ القَوْسِ الثّالثِ من قُبَّتكمْ
يَرْكَعُ مُتَّهمُ أَعْمَى
مَأْخُوذٌ بالكُفْرِ وإنْشادِ الشّعرِ
وبكاءِ نَداماهُ المنذورينَ لسيفِ الغَيْبِ
يشربُ في تَلَفِ الأحبابِ وآثارِ الصَّحبِ
يشربُ.. يشربُ.. حتى تُوردُه الخمرُ صباحَ الوردِ
وتَهيم سفينتُهُ خلفَ الأحبابِ بآلافِ الخلجانِ .
-يا هذا الأَعْمى..
كيفَ تقولُ الشّعرَ بلا إِذْنٍ..؟!
بل كيفَ تقولُ بأنَّ الخَلاّقَ تَماهى في المخلوقِ
وأنَّ اللَّذةَ في الخمرةِ والمرأةِ دَيْدَنُكَ الأَسْمَى
وتُجاهِرُ بالإثْمِ صَباحَ مَسَاءَ ولا تَخْشَى عَسَساً
أو تقريراً يرفعُهُ البَصَّاصُ السَّاهِرُ في عينِ السُّلطانِ؟
يا هذا المُتَّهَمُ الأَعْمَى
اِلْهَجْ باللَّذّةِ ما عشْتَ
وانْظُمْ ما شِئْتَ من الأَشعارِ
ولكنْ.. لا تَلْهَجْ بالعَقْلِ جَهاراً
إنّا لا نَسْمَحُ أَنْ تَصِلَ العَدْوى
أَوْ تَسْرِي في الهاجعِ مِنْ هذي القطعانِ
***
يا بَنْ عَطَاءٍ..
هذا الحلاّجُ(5) على أعلى قوسٍ في قُبَّتِهِ
يستفتحُ في أطباقِ الليلِ الخانِقِ كُوَّةَ عشقٍ
يطلقُ فوقَ صليبِ السُّلطانِ يَماماتٍ الرّوحِ،
ويضحَكُ، يضحكُ حتّى يفَنى الطّينُ المتهتّكُ
فوقَ حرابِ الجُنْدِ المذعورينَ
يضحكُ من خوفِ السّلطانِ من الطّينِ
يتربَّعُ فوقَ القُبَّةِ مَحْزُونَ القلبِ
يَأْسَى للذئبِ الهائجِ في ثوبِ السُّلطانِ المسكينِ
-اِنْهَشْ ما شئتَ من الحملانِ،
فإنّك لا تنهشُ إلا الطيّنَ
لَنْ تَصِلَ الأنيابُ يَماماتِ الرُّوحِ
وَيَبْقَى الذّئبُ المسعورُ
أسيرَ الطّينِ

ليست هناك تعليقات: