(بيان) أمر للنبي أن يعوذ من شر الوسواس الخناس والسورة مدنية كسابقتها على ما يستفاد مما ورد في سبب نزولها بل المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معا.
قوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس " من طبع الانسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحسن من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه والذي يراه صالحا للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبره ويربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من
الشر، هذا سبب تام في نفسه، وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، وهذا أيضا سبب تام مستقل في نفسه.
وهناك سبب ثالث وهو الاله المعبود فإن لازم معبودية الاله وخاصة إذا كان واحدا لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا يرجع في شئ من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه.
والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفاة الثلاث لنفسه في قوله: " ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون " الزمر: 6 وأشار تعالى إلى سببية ربوبيته وألوهيته بقوله: " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " المزمل: 9، وإلى سببية ملكه بقوله: " له ملك السماوات والارض وإلى الله ترجع الامور " الحديد: 5 فإن عاذ الانسان من شر يهدده إلى رب فالله سبحانه هو الرب لا رب سواه وإن أراد بعوذه ملكا فالله سبحانه هو الملك الحق له الملك وله الحكم (1) وإن أراد لذلك إلها فهو الاله لا إله غيره.
فقوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس " الخ أمر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعوذ به لانه من الناس وهو تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس.
ومما تقدم ظهر أولا وجه تخصيص الصفات الثلاث: الرب والملك والاله من بين سائر صفاته الكريمة بالذكر وكذا وجه ما بينها من الترتيب فذكر الرب أولا لانه أقرب من الانسان وأخص ولاية ثم الملك لانه أبعد منالا وأعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه ويكفيه ثم الاله لانه ولي يقصده الانسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي.
وثانيا وجه عدم وصل قوله: " ملك الناس إله الناس " بالعطف وذلك للاشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر فهو تعالى سبب مستقل لكونه ربا لكونه ملكا لكونه إلها فله السببية بأي معنى أريد السبب وقد مر نظير الوجه في قوله " الله أحد الله الصمد ".
وبذلك يظهر أيضا وجه تكرار لفظ الناس من غير أن يقال: ربهم وإلههم فقد أشير به إلى أن كلا من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الاخريين لاستقلالها ولله الاسماء الحسنى جميعا، وللقوم في توجيه اختصاص هذه الصفات
وسائر ما مر من الخصوصيات وجوه لا تغني شيئا.
قوله تعالى: " من شر الوسواس الخناس " قال في المجمع: الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي انتهى فهو مصدر كالوسوسة كما ذكره وذكروا أنه سماعي والقياس فيه كسر الواو كسائر المصادر من الرباعي المجرد وكيف كان فالظاهر كما استظهر أن المراد به المعنى الوصفي مبالغة، وعن بعضهم أنه صفة لا مصدر.
والخناس صيغة مبالغة من الخنوس بمعنى الاختفاء بعد الظهور قيل: سمي الشيطان خناسا لانه يوسوس للانسان فإذا ذكر الله تعالى رجع وتأخر ثم إذا غفل عاد إلى وسوسته.
قوله تعالى: " الذي يوسوس في صدور الناس " صفة للوسواس الخناس، والمراد بالصدور هي النفوس لان متعلق الوسوسة هو مبدء الادراك من الانسان وهو نفسه وإنما أخذت الصدور مكانا للوسواس لما أن الادراك ينسب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب والقلب في الصدر كما قال تعالى: " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج: 46 قوله تعالى: " من الجنة والناس " بيان للوسواس الخناس وفيه اشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين وفي زمرتهم كما قال تعالى: " شياطين الانس والجن " الانعام: 112 (بحث روائي) في المجمع: أبو خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة.
أقول: وتقدم بعض الروايات الواردة في سبب نزول السورة.
وفيه روى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسى التقم فذلك الوسواس الخناس.
وفيه روى العياشي باسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك، وهو قوله سبحانه: " وأيدهم بروح منه ".
وفي أمالي الصدوق باسناده إلى الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " صعد إبليس جبلا بمكه يقال له ثوير فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا.
قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فقال لست لها.
فقال الوسواس الخناس: أنا لها.
قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة.
اقول: تقدم بعض الكلام في الشيطان في أوائل الجزء الثامن من الكتاب.
تم الكتاب والحمد لله واتفق الفراغ من تأليفه في ليلة القدر المباركة الثالثه والعشرين من ليالى شهر رمضان من شهور سنه اثنتين وتسعين وثلاث مائة بعد الالف من الهجرة والحمد لله على الدوام، والصلاة على سيدنا محمد وآله والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق