وِصَالُ..
خارجٌ.. في رداءِ الصَّباحِ الشَّفيفْ..
مِنْ رَحِيمِ البَيَاضْ
داخلٌ.. في شُقوقِ المساءِ الكَفِيفْ
في رَجِيمِ السَّوادْ.
***
طَرِيْدٌ..
تُحاصِرُكَ الرِّيحُ والعاوياتُ
وخُزْرُ العيونِ تُبَعْثِرُ ذَرّاتِكَ الهالكاتِ
وتَنْقُضُ صدرَكَ ضِلْعاً فَضِلعا
فأينَ ستُخفي هواكَ الغريبَ
وأيَّ الدّروبِ ستسلكُ يا صاحِ..؟
هذي الرِّمالُ على الأُفْقِ تَزْهُو
تَفُور بعينيكَ حُلْما خَلوبا
وتعلمُ أنَّ الرّمالَ سرابٌ كَذوبُ
وهذي الثُّلوجُ على غابةِ الصّدرِ تَعْلُو وتَعْلُو
ويغتالُكَ البردُ، يَفْري عظامكَ، تطفُو على الوجهِ
بعضُ البَذَاءاتِ، بعضُ المسَّراتِ، صَوْتٌ طَروبُ
وما بينَ ثلجٍ ورملٍ تناثرَ عُمْرٌ، وضَلَّتْ خُطاكَ
تساقطتَ حَرْفاً فحرفاً،
وكأساً يجاهدُ كَيْما يزورَ الحبيبُ
-وصالُ..
تَراني إلى أَرْذَلِ العُمْرِ أمضي وَحيداً؟..
وأنتِ التي قاسَمَتْنِي اللَّيالي، وخوفَ الشّتاءِ،
أنينَ السُّقوفِ العتيقةِ تَهْتَزُّ طِينا وحَوْرا،
وتَفْرَقُ من أُعْطياتِ السّماءِ
- وها أنتَ تَنْسلُّ ضِلْعاً فضلعاً
وتغرقُ في حارقاتِ الرّمالِ.
أَتَذْكُرُ بيتاً من "اللِّبْنِ" يزهُو بزهوِ البَيَاضِ
ويفتحُ في الصَّدرِ عَيناً من الأخضرِ المُستَحِمِّ بعطرِ المساءِ؟
هو البابُ يرقُبُ أسمالَ زُغْبٍ
يَؤُوبونَ بعدَ كَلالِ النّهارِ
يَنُطُّونَ فوقَ حجارةِ دَرْبٍ، تنوءُ بوقْعِ "الشَّوارِيخِ"،
تَعْدُو وَتَعْدُو.
... لقد آنَ للسِّرْبِ أنْ يستريحَ.
تطايرَ مِنْ فَوقِنَا الشَّتْمُ واللّعنُ في أوجُهِ العابسينَ الشّيوخِ
-متى يسكنُ الجِنُّ؟
هذا الظَلاّمُ يلفُّ الحَواري؟!
وكانتْ تُقَرْقِعُ "كَرَّاجَةٌ" في الدّروبِ
تَنوسُ على البابِ كَسْلى، وتَهوي عَياء
نَفَذْتَ إلى البيتِ سَهْماً ضَريراً
تَلَقَّتْكَ أُمٌّ، وَدَلْوٌ منَ الماءِ والأُدْعياتِ
تُزِيلُ شَقاواتِ يومٍ طويلٍ
وغالبكَ النّومُ، في الكفِّ خبزٌ وزعترْ،
وحلمٌ بيومٍ جديدٍ،
وكفُّ وصالَ على الرأسِ تَتْلُو بصمتٍ:
"أعوذُ بربِّ الفَلَقْ"
***
مُفْرَدٌ.. ضَارِبٌ في الهَجيرْ
تائهٌ.. ضاعَ فيك السَّميرْ
ضارِعٌ.. آهِ مَنْ تستجيرْ
صامِتٌ.. هل رآكَ النَّذيرْ..؟!
***
شَرودٌ على الرّملِ،
هل واصَلَتْكَ القصيدةُ في رحلةِ الأمسِ،
أَمْ خاصَمَتْكَ القَوافي، فملتْ إلى شاحبِ النّخيلِ،
أَسْنَدْتَ ظَهْراً، تُقَطِّعُهُ الدّربُ، والحِملُ وِزْرٌ ثَقيلٌ،
ينوءُ بأعوامِ عُمْرٍ شَقيٍّ، تناثرَ كالياسمينَ الذّليلِ.
وهل داهَمَتْكَ الطُّيوفُ التي تَفْجَأُ القلبَ في زُرقةِ الفجرِ
تَزْقُو على القَبْرِ
تَعْلُو عَوِيلا
ويَطْفُوا على الرَّملِ وَهْجُ النّجيعِ وصَمْتُ الصَّقيعِ
وصوتٌ أجشُّ شَواهُ السَّغبْ
فَمَنْ يُتْرِعُ الآنَ كأساً من الخمرِ،
مَنْ يثأرُ الآنَ للرّوحِ،
هذي البيوتاتُ،
أَمْ رِفْقَةُ الصَفِّ،
أَمْ ما كتبناهُ خلفَ القَوافي،
وما ضَاعَ مِنّا بِحُمَّى اللَّعِبْ؟!!
لقد ضاعَ ثَأْرُكَ -يا صاحِ- بينَ المنافي، وخوفِ القَوافي،
وأَنْهَبَ إِرْثَكَ رَبُّ العَرَبْ .
هو الحزنُ يملأُ أقطارَ قَلبي ويَنْهَدُّ في الرّوحِ ظِلاً عَليلا
فكيفَ تزورُ القصيدةُ؟!
هذا المساءُ تَقَبَّضَ وَارْبَدَّ.. غُولا
وأُبْتَ مع الفجرِ ظِلاً خَليعاً، يُهِيضُ الخيامَ ويَطْوي الطُّلولا.
-تباركتَ يا آخرَ الرّاحلينَ....
تَضَوَّرَ في راحَتَيَّ الكلامُ وأنتَ تُشيحُ بوجهٍ علاهُ الضّرامُ،
تطاوَلَ بعضُ ضُلوعي..، وكنتَ تُلَمْلِمُ أَشْتاتَ جلدكَ من راحتيَّ،
ليدفعَ بعضُك بعضاً، وتَمضي وحيداً، يَفيضُ على راحتيهِ السَّلامُ.
-وصالُ..
أَمَا مِنْ سبيلٍ إليكِ؟؟
لقد أَنْفَضَ القلبُ صَبْراً وماءً، وكنتِ السَّرابَ الذي لا يُنَالُ.
-تباركتَ يا أوّلَ النّازلينَ، إلى قاعِ رُوحيْ.
تعاطيتَ كأسينِ قبلَ النّزوحِ
وغَيَّبْتَ كأساً وكأساً ليرقصَ فيكَ المجونُ المُوارَى،
ويَنْضُو شفيفَ الجلالِ
-فمن أيِّ كأسٍ ولَحْنٍ وَلَجْنا
ومن أيِّ بابٍ خَرجنا؟
-لقد كانَ بابُ اللُّجوءِ
ويتلوهُ بابُ النُّزوحِ
-فأيَّ السُّموتِ سيأخذُ هذا القطيعُ الجَفُولُ
أَمَا مِنْ شَرابٍ يُعدِّلُ هذا المسارَ البَهيمَ
وفي أيِّ بابٍ يحطُّ الرّحيلُ
فمن بابِ حَيْفا إلى بابِ مصرَ، إلى التِّيهِ حيثُ البَيَاتُ الطَّويلُ..!
تَغَيَّبْتَ في قاعِ رُوحي طويلاً
وأُبْتَ -على الجهدِ- طِفْلاً.. تفيضُ
فيبكيكَ بعضُ الحمامِ، وبعضُ الرمالِ التي ساكَنَتْكَ،
يُهَمْهِمُ صوتٌ تَوَجَّعَ فيه النّحيبُ:
متى يَبْرَأُ الصَّبُّ -يا صاحِ-
هذي ضُلوعي تَعُبُّ مَرارَ الدَّنَفْ
تَدبُّ وَئيداً.. وئيداً.. لتغدو التَّلفْ
تَرِفُّ على الفَجْرِ ظِلاًّ قَتيلا
وتَغْدو وصالُ صَدى مُسْتَحيلا.
فما يطفئُ النّارَ في الرّوحِ، مَنْ يَستضيفُ أُوَارَ القَوافي؟؟
وها أنتَ تصعدُ في عالمِ الخمرِ والنّفسِ
ظلاًّ.. يهيمُ على كأسِهِ السّابِعَهْ
ويستحضرُ القلبُ صوتاً تَبَلَّلَ بالخمرِ والفاجِعهْ
فأيُّ النجومِ يوافقُ نَجْمَكَ، أيَّ القَوافي تبيحُ القصيدةُ
هذي المجرّاتُ تَنْسلَّ خَلْساً
يغادِرْنَ صَدري بكاءً شَجيَّا
وينكفئُ الطّينُ حُزْناً طَويلا
فليتكَ كنتَ معَ السَّالكينَ
وليتَ وصالَ تبيحُ الوُصولا
فَمَنْ أنتَ يا صاحِ، أفصحْ قليلاً
وغادرْ جنونَكَ، أَطْبِقْ على الحلمِ أجفانَ قَلْبِكَ
طَبِّعْ كثيراً لكي تدخلَ المرحلَهْ
تَقَدَّمْ..
فهذا أوانُ الدُّخولِ
فقد أعلنَ الرَّبُّ أَنّا خَرَجْنَا
وما مِنْ سَبيلٍ إلى المهزلَهْ
-خَليعٌ أنا يا صَديقي.. نَفِيٌّ
وتَبقى لي الأرضُ والكائناتُ، وسُومَرُ والبعثُ والأُرجوانُ
وفِينيقُ، أَوْ مُسْتَريبُ التَّصوُّفِ، إيمانُ أحمدَ والمعجزاتُ
أنا نقطةُ الخاءِ في الخَلْقِ، باءُ البداياتِ، جيمُ التَّجليِّ.
-سَمِيرُ..
أما آنَ أنْ نستريحَ، وينزلَ عَظْمِي وجِلْدِي؟
فهذا الفؤادُ تَماهَى به الخوفُ والزَلْزَلَهْ
وناءَ بخمسينَ دَهْراً على خشبةٍ مُهْمَلَهْ
سميرُ..
تَحَسَّسْ مفاتيحَ صمتكَ
إنَّ الصّليبَ يَئِنُّ،
وهذا المُسَجَّى بصدرِي، نَبا مَنْزِلَهْ
-تَجَلَّدْ صَديقي
فهذي وصالُ على شُرْفَةِ الرُّوحِ
فاضْمُمْ فُؤادكَ،
لَيسَ الهَوَى مَقْتَلَهْ
***
خَارِجٌ في الرَّجيمِ الكَفِيفْ
دَاخِلٌ في البَياضِ العَفِيفْ
إِنّها المرحَلَهْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق